أسئلة حول آية “فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم”

ترى بعض التفاسير، ويرى كثيرون، أنّ مراد الله سبحانه في قوله “فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكمهو أن يدخل بني اسرائيل في مقتلة جماعية، إما عبر الانتحار، او عبر قتل بعضهم البعض. ويصل عدد المذبوحين في هذه الحادثة في بعض التفاسير لعشرات الآلاف.، فهي أشبه بالمجزرة جماعية، الغرض منها التوبة.
وقبل الدخول في الكم الهائل من الإشكالات التي يمكن إثارتها على نسبة تشريع هذه المجزرة المفترضة لله وأنبياءه العظام، ينبغي فعلا التوقف عند التبرير الغريب الذي يتم تقديمه كمبرر لعملية القتل هذه. يُقال في التبرير: هو أمر الله، وينبغي تنفيذه، ولا يُسأل الله عما يفعل.
هكذا، وبأمثال هذه التبريرات، ينبغي للعقل أن يستقيل، وينبغي للوجدان أن يقبل أنّ الله يجعل الانتحار الجماعي والقتل الجماعي وسيلة للتوبة. فهل هو هي تصوّراتنا المغلوطة عن لله تلك التي تجعلنا نقبل بهذه الأفهام؟ وسوء فهم لحكمته؟ أم هو غياب للثوابت القيمية والمحكمات من أذهاننا؟
ما هي المشكلة؟ كيف تمر هذه التصورات علينا دون أن يستنكرها العقل والضمير الأخلاقي؟
هذه مشكلة التعامل مع القرآن كنص جامد، مبتور كليا عن الحكمة وعن الثوابت العليا، وعن القيم، وعن المفاهيم (مفهوم التوبة مثلا)، ومبتور كذلك عن سياق النص الذي وردت فيه الآية، وعن التاريخ، وعن دلالة النص في الواقع الذي اشتغل فيه، المشكلة التي أخرجت لنا تفسيرات مشوّهة لهذا الحد، دون أن يستنكرها العقل، بل ويشرع في تبريرها.
سنطرح الآن أسئلة مشروعة على تفسير أنّ مراد الآية هي المذبحة الجماعية وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم“.
أولا: ما هي الحكمة؟ ماذا كان يريد الله أساسا من بني إسرائيل؟ وما الذي يريده من توبتهم؟ ما هي أساسا الخطيئة التي يراد منهم التوبة عنها؟ ولو راجعنا مفهوم التوبة في القرآن، وشروطها، فكيف أصلا يكون تحقق التوبة؟ هل بالانتحار؟! ام بآلية أخرى شرحها القرآن نفسه؟
ثانيا: القرآن نفسه خاطب بني اسرائيل بعد هذه الحادثة، ومن ضمنهم الذين أمرهم بقتل أنفسهم، فكيف خاطبهم ان كانوا قد قتلوا في المذبحة العظيمة؟ طبعا بدل استثمار هذا التساؤل في تصحيح تصورنا عن الحادثة، لجأنا إلى تفسير ذلك بوهم آخر وهو أنّه قد أحياهم من الموت بعد المذبحة.
ثالثا: لنجعل أنفسنا في المدينة المنوّرة حين نزول هذه الآية، ونلبس قبّعة يهود يثرب المخاطبين بالآية، ما المطلوب منهم فعله؟ هل المطلوب تكرار فعل أسلافهم أي أن يقوموا بمجزرة اخرى في أنفسهم؟ ما فائدة ذلك؟ ام انّ المطلوب هو شيء اخر يناسب السياق والحكمة والتاريخ والواقع ومفهوم التوبة لهؤلاء اليهود؟
رابعا: كيف يأمر الله بالانتحار الجماعي؟ وفق أي حكمة، وأي معنى، ولأي غرض؟ بل كيف يقتنع الناس بنبي يدعي انه مبعوث من الله يأمرهم بالانتحار الجماعي، وبقتل بعضهم بعضا؟ آلاف الأشخاص يقومون بمذبحة، لأن الله يريدهم ان يتوبوا عن خطاياهم؟! هل هذل منطق يناسب حكمة الله؟!
خامسا: ما الشواهد التاريخية على هذه المجزرة الضخمة؟ متى صارت؟ وأين؟ وهل يعقل عدم وجود أي تدوين لها؟ ولا تأريخ؟ ولا حتى اشارة؟ عشرات الالاف يقتلون في حادثة بهذه الضخامة ولا يوجد اثر ولا تدوين ولا شيء لها؟ يوجد فقط خرافة توراتية تسللت الى تفسيرنا للقرآن!
سادسا: أليس الأجدر بنا أن نبني المحكمات أولا، أي نصحح تصوراتنا عن الله سبحانه، وأنبياءه، وعن المفاهيم، قبل محاولة فهم القصص المتشابهات؟ وهل يمكن اقتحام متشابه القرآن هكذا دون وضع ثوابت عليا ومحكمات تنزّه الله تعالى عن الظلم والجور، وتنزّه أنبياءه عليهم السلام عن هذه التصورات السيئة، وعن الخرافة والجهل؟ ما هي هذه الثوابت وما هي هذه المحكمات؟
سابعا: هل يستوعب هذا النص من حيث ألفاظه وبنائه اللغوي فهم أخرى لعبارة “فاقتلوا أنفسكم”؟ ويكون هذا الفهم منسجما مع تلك المحكمات وتلك الثوابت، ومع ظرف نزول الآيات، وسياقها النصي وهوية السورة التي هي متضمنة فيها؟
المبدأ واضح، وفكرة التوبة واضحة كذلك. من يخطأ عليه أن يتوب، والتوبة لها شروطها وآلياتها، وذلك بتطهير النفس عن الخطأ، ومعالجة أسباب الخطأ، واقتلاع جذوره، وقطع العوامل المعينة عليه. هذه فكرة منطقية وصحيحة، والله يأمرنا بها في كل قرآنه، فما الذي دفعنا لهذا الجهل الفظيع بأن نقول ان الله يجعل الانتحار وسيلة للتوبة. وسياق الآيات يقول انّ بني اسرائيل ظلموا أنفسهم بعبادة العجل. هذا الظلم كيف يكون التكفير عنه منطقيا، وعقليا، وروحيا، وشرعيا؟ كيف يكفر الانسان عن ظلم من هذا النوع؟ بالانتحار؟! ام بإزالة دواعي وشروط ظلم النفس ذلك؟ عبر التوبة منه، وتصحيح وضعه؟

Scroll to Top