من الآيات يتبيّن لنا أنّ “بيّنات” عيسى (ع) أربع، ولكنها كانت “آية” واحدة “إني قد جئتكم ب(آية)” كما في آية آل عمران، وإذ جئتهم ب(البينات)” كما في آية المائدة أ. يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طير ب- يبرئ الأكمه والأبرص ج- يحيى الموتى د- ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم
يجب أن يربط هذه البينات الأربع موضوع واحد، فلا يمكن أن تكون جزرا في محيط لا رابط بينها كما قالت كثير من التفاسير، أي لا يمكن أن يكون قد صنع طينا على شكل طير فنفخ فيه فتحوّل إلى طير، وقال بعضهم أنه الخفاش. ثم في جانب اخر شافى المرضى بمسح يده عليهم، وأحيي موتى القبور، بل زعم بعضهم أنه أحيا سمكة بعد أكلها، وأنه ذهب إلى قبر سام بن نوح فأحياه لهم ثم أعاده في قبره. وأنه أيضا من جانب آخر أعلمهم بالغيب بما أكلوا ذلك اليوم وما يُخبّئونه في منازلهم من طعام. كل تلك التفاسير لمعاجز مختلفة ليس لها رابط موضوعي يجمعها كلها.
معاجز التفسير المختلقة هي بلا حكمة ولا فائدة علمية ولا حضارية، وتجعله (ع) كالساحر الذي يخرج أرنبا من القبعة أو يحول المنديل طيرا، بل تجعل حجة النبي الخاتم (ص) لقومه على المحك لأنه لا يستطع ولن يستطيع أن يصنع مثلها. ثم هي لا تفيد نبينا (ص) في رسالته إطلاقا، وهو (ص) الذي كانوا يطالبونه مرارا وتكرارا أن يأتي بأشباه تلك الخوارق لهم، فكانت السماء ترفض هذا السفه والمكابرة، وهذا النوع من الطلبات.
إنّ الآية المقدمة على كل آيات عيسى هي الحكمة ” وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ” – الزخرف 63؛ فلابد ان يكون كل شيء في إطار هذه الحكمة.
فمعنى (خلق الطير) لا يمكن ان يخالف الكتاب ولا الحكمة ولا التوراة والانجيل. وعند مراجعة سرد الأناجيل، لن نجد أن عيسى (ع) فعل سوى أنه قد عالج المرضى بقصص تكررت كثيرا في الانجيل. فإننا سنلحظ في الكتاب المقدس تكرار قصص وجود مرضى؛ ومرور عيسى عليه السلام عليهم مسألة ملحة يتكرر سردها مرارا، ما يشير بوضوح إلى وجود وباء متفشّي. فلن يكن هناك وجود لا لخفافيش ولا طيور طينية وما أشبه. وفي ظرف صحي كالذي كانوا فيه، سيكون من المضحك أن يتجاهل هذا الطبيب الماهر (عيسى عليه السلام) الداء المنتشر والمستصعي على العلاج، ويقوم بخلق خفافيش!
ف”الآية” إذن هي عبارة عن علوم طبية لا يأتي بها إلا من هو متصل بالله. والمرض الذي كان منتشرا وعمل عيسى على علاجه كان هو الجذام. عيسى (ع) كان أميا، والآية كانت فوق المستوى المعرفي لزمانه وفوق المستوى العلمي الشخصي له. وهذه كانت علوم ترفع من شأن الانسان وتصلح أحواله، وتناسب حكمة إرسال النبي لهم.
إنّ كلمة “أبرص” هي كلمة محورية ومفتاحية للموضوع كله، ومن خلالها يمكن النفاذ إلى حقيقة الآية وموضوع البينات. بالنسبة لكلمة “أكمه”، فإنّ الكمه هو تغير في لون الجلد وتبقّع فيه، وهو المعنى المتناسب مع الآية. كما يوجد معنى آخر للكمه وهو العمى. والبرص المعني في الآية هو برص الجذام لا برص المهق، والعلاقة بين الكمه والبرص هو أن كمه الجلد مقدمة لبرص الجذام. فالبرص المعدي (الجذام) هو الوباء الذي زامنه عيسى، لذلك في تراثنا أن عيسى عليه السلام كان يخالط المجذومين وعلامة الجذام قد لا تظهر، لكن أول علاماته هي تغير لون الجلد بالبقع الشاحبة وهو الكمه بالمعنى الاول، ومن أواخر أعراضه العمى وهو الكمه بالمعنى الثاني، كما قد ينتج المرض شلل جزئي لبعض الاطراف أو شللا تاما.
أهم واسطة لنقل عدوى الجذام هو بواسطة (رذاذ) الأنف. فبكتيريا الجذام هي بكتيريا هوائية (والانتقال قد يحدث عن طريق قطيرات الرذاذ الأنفي). والمجذومون كانوا ينفون من الأرض آنذاك، لذلك هم في الحقيقة موتى الحياة الاجتماعية. وقد أرخ الكتاب المقدس لقصص كثيرة على ذلك. ففي التوراة: عدّت توراة الكهنة المصاب بالبرص (الجذام) شخصًا نجسًا! وفي خطية أو لعنة! وذكرت أنّه يجب نفيه (أَوْصِ بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَنْفُوا مِنَ المَحَلةِ كُل أَبْرَصَ) – سفر العدد 5: 2
كما إنّ عليه التكفير والتطهّر ثم القربان، (فَإنْ رأى الْكَاهِنُ وَإذَا الْقُوبَاءُ قَدِ امْتَدَّتْ فِي الْجِلْدِ يَحْكُمُ الْكَاهِنُ بِنَجَاسَتِهِ، إنَّهَا بَرَصٌ – سفر اللاويين 13: 8). لذلك فإنّ المصاب يُنفى ويُعزل عن المجتمع وعن المحلة. وفي الانجيل استعمل لفظ الموتى ليعطي ثلاث دلالات، الأولى هي الغافلون وأموات القلب، الثانية هي المشلولون والمعزولون من مرض الجذام، والثالثة هي وصف للذي في غيبوبة (كالحادثة التي أرخها الانجيل لفتاة كانت في غيبوبة فعالجها المسيح).
إذن فعيسى عليه السلام يحيى الموتى بمعنيين، الأول صحيا والثاني روحيا. أمّا المعنى الأول فهو عليه السلام يعيد الحياة للموتى الاجتماعيين المنبوذين خارج محلاتهم وقراهم بمعلاجتهم من المرض الذي كان سبب نفيهم (الجذام)، ليتم اعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع مرة أخرى. وأمّا المعنى الثاني فهو إحياء الموتى الروحيين الذين فقدوا ايمانهم – ولكن لا تزال لهم قلوب نظيفة – فهؤلاء قد يستعيدوا إيمانهم بعد رؤية هذه العلوم، وحين يرون صلاح حالهم وصحتهم بها. لكن المؤكد أنّه لم يكن يحيى موتى القبور!
إذن عرفنا مما سبق أنّ عيسى عليه السلام كان يعالج أمراضا متفشية ومعدية آنذاك، بأدوية نبوية موحاة إليه، كمعالجته الأكمه والأبرص (مرضى الجذام)، وكذلك يشتمل علاجه على معالجة من كان يُنبذ ويعزل خارج المجتمع نتيجة التقاطه عدوى المرض.
وبحسب “مدى” لفظة الموتى الواردة في الآية، فإنّه في قضية عيسى (وأحيى الموتى بإذن الله) يتسع ليشمل موتى برص الجذام بكل أشكاله: مجذوم منبوذ، مشلول، متقرّح منبوذ، المطروح في غيبوبة، الأعمى المقعد، الأعرج. نقرأ في الكتاب المقدس: “فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِي أُورُشَلِيمَ بِرْكَةٌ. فِي هٰذِهِ كَانَ مُضْطَجِعًا جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْمَرْضَى، ٱلْعُمْيِ، ٱلْعُرْجِ، وَذَوِي ٱلْأَعْضَاءِ ٱلْيَابِسَةِ، وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً”
أمّا لماذا قال “أبرئ” وليس “أشفي” فلأنّه ليس بالضرورة كان يشفي المرضى تماما بمعنى إزالة إعاقاتهم وعاهاتهم الناتجة عن المرض بشكل نهائي وكلي، كمن تشوّه كلياً مثلا او فقد بصره نهائيا او خسر أحد أطرافه، فهذه قد تكون عاهات لا رجعة منها ولا شفاء كلّي، ولكنّه عالجهم بالمقدور، فأوقف تطور المرض، وسمح لهم بالدخول في المجتمع مرة اخرى، ونقّاهم من المرض بحيث لا ينتشر ولا يكون معديا بينهم. وهذه دلالة كلمة أبرىء التي استخدمتها الآية.
هذا كان بالنسبة لعلم الطبابة الذي جاء به (ع)، أي علم معالجة المرض المتفشي، ولكن آيته اتسعت لتشمل لا فقط معالجة المرض نفسه، وإنما جاء بالطب “الوقائي” كذلك. فالوباء يحتاج أولا أدوية للعلاج، ثمّ يحتاج ثانيا علما طبيا “وقائيا” يرفع أسباب المرض، ويقي منه، ويخفف احتمالية الإصابة به. وبالنسبة للطب الوقائي من آيته، فإنّ عبارة (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) هي الكاشفة له، فهذه الآية تطوي كثير من علوم الصحة والوقاية.
ولاحظ أنّه لم يقل “وأنبئكم بما أكلتم” لينسجم مع مقالة بعض المفسرين من أنّه كان يخبر الناس بما أكلوا أو أخفوا في بيوتهم من طعام. وإنما قال “ما تأكلون” فهي مضارع تستهدف ما يأكلون بشكل مستمر. “ما تأكلون”، فليس كل الأكل صالحا أو مناسبا لكل الأمراض. وبعض المأكولات تضعف المناعة، وتسبب أمراضا تزيد قابلية إنهاك الجسد وتراكم العلل فيه. وبعض الأطعمة مفيدة للصحة، مقوّية للمناعة، معينة على مكافحة الاوبئة والامراض. وعيسى (ع) كان يعلمهم كل ذلك. أما “وما تدخرون” فهي لمعرفة ما يمكن ادخاره في البيوت اثناء الوباء فبعض الأطعمة يمكن ان يكون تخزينها سببا في جلب الامراض والقوارض، فهناك قائمة ضخمة من الأطعمة يعرفها العلم يمكن ان ينتج سوء تخزينها أسقاما وبعضها تنتهي صلاحيتها سريعا، وهناك آليات تمديد لصلاحية الطعام وللتخزين السليم.
هذا علم إلهي ضخم مكدس في عبارة “وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم”. فهو يستطيع تعليمهم حقائق علمية وطبية عن عالم الطعام، فوائده ومضاره، أدويته وأدوائه، ما ينبغي أكله ومتى وكيف وما لا ينبغي بسبب مضارّه، وما يفسد منه وما لا يفسد، وما يُتّخذ للعلاج والوقاية، وكيفية ادّخار كل نوع من الأكل وتخزينه وحفظه ومكافحة آفاته وتمديد صلاحيته ليكون صحيا نافيا للأدواء المبتلى بها بالطرق العلمية الصحيحة، ما يفيدهم إذا اختبأوا في البيوت خوفا من الوباء، وما لا يفيدهم.
عرفنا مما سبق أنّ آية عيسى (ع) حينها هي آية طبية، وعلومه كانت علوم طبية أوحيت إليه، ليعالج المرض المتفشي آنذاك، وهو الجذام. وآية “أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير” هي مقدمة البينات، ومفتاحها. ونظرا لما تقدم، فعبارة (أخلق لكم من الطين كهيئة الطير)، منطقيا وسياقيا، تحكي عن أدوية العلاج نفسه.
ولكن لابد أولا من معرفة أنّ طير في اللغة لا تعني الحيوان حصرا. وبحسب القاعدة المشروحة لجمعية التجديد، فالكلمات في اللغة العربية لها “مدى” تشتغل فيه، والطير معانيه عديدة، والقرآن قد استخدمها أساسا لأكثر من معنى. فطير لغةً يعني كل ما يرتفع متحركا أو يبتعد ويغيب، أكان ماديا او معنويا. يُقال طار الطائر، طار عقله، طار المرض، طارت الصحف، طير أبابيل، طار فرحا، طار على فرسه (كما في الحديث)، طار الشر. والطين (ذكرها القرآن 12 مرة) يوجد فيه عناصر تكوين “الانسان” نفسه (فوسفور، سوديوم، اكاسيد،معادن، نحاس، زنك، حديد، كالسيوم، كربون عضوي، جذور النباتات الخ) فالتراب (الطين) فيه أكثر مركبات وأملاح الأرض، ويمكن صناعة مركبات دوائية منه.
عودا للطير: الألف واللام في ال(طير) “أخلق لكم من الطين كهيئة (الطير)” ليست ألف لام للجنس بمعنى: أيّ طير، وإنما ألف لام عهد، أي كهيئة (الطير) المُتكلّم عنه (أي المعهود). فما هو هذا الطير المُتكّلم عنه؟ هو نفسه محور الموضوع كله، الذي تكشفه الكلمة المحورية في الآية أي (أبرص)، فالطير إذن هو (البرص).
ولكن لماذا البرص تم التعبير عنه ب(الطير)؟ ببساطة لأنّ بكتيريا البرص هي بكتيريا هوائية (طيّارة). فالقرآن بهذه الصياغة يكشف سبب الداء بدقة شديدة. فهو يكشف أنّ الجذام سببه كائنات “تطير” لكنها لا تُرى. الطب الحديث يسميها اليوم airborne فهي تنتقل عبر رذاذ أنف وفم المصاب أو عطاسه. والعلاج إنما كان مسحوق أو رذاذ هوائي (هوائي طيّار كهيئة البكتيريا الهوائية الطيّارة)، لذلك قال انه يخلق لهم من الطين “كهيئة الطير” أي يخلق لهم من المواد المستخلصة من الطين مسحوق علاجي هيئته طيّارة كهيئة الطير المُتكلم عنه (بكتريا الجذام)، وهذا المسحوق “يُنفخ/يُحقن” عبر غشاء الانف.
فهل الآية تقول أنّ عيسى (ع) صنع/خلق الطير؟ كلا لم تقل ذلك، بل صنع من الطين ك(هيئة الطير). فالآية تقول: يخلق شيئا ما من الطين، هيئته (كهيئة) الطير. فهو كان يصنع مسحوقا رذاذيا من الطين، على هيئة مُسبب المرض، أي البكتريا الطيّارة. فاذا كان الطير هو سبب البرص (مجهريات طيارة)، فما هي “هيئة الطير” هذه؟
هيئتها أنها أولا: متناهية الصغر، ثانيا: رذاذيه. ثالثا: لا تُرى. رابعا: تخترق مجرى التنفس. فالدواء الذي هو كهيئة الطير المسبب المرض لابد ان تتوفر فيه هذه المواصفات ليكون هيئته (كهيئة الطير) نفسه، أي متوفرة فيه الصفات الأربع. وهو إذن يخترق الأنف بنفسه أو بمساعدة (عبر النفخ). أمّا “طير” الثانية النكرة (فيكون طيرا) فنجد مثلها في دعاء النبي (ص): “اللهم لا طير الا طيرك ولا خير الا خيرك ولا إله غيرك. اللهم لا يأتي بالحسنات الا انت ولا يذهب بالسيئات الا انت”. النبي (ص) لا يتكلم عن خفافيش او طيور تطير في الهواء. وإنما يقصد أنه لا يطيّر السوء (لا يطير من السوء) الا ما طيّره/أزاله الله تعالى. وبالتالي فعبارة (فيكون طيرا) تعني طار السوء وطار المرض أي زال.
الخلاصة من هذا الملخص هو أنّ معنى الآية يكون كالتالي: أني أخلق لكم (أصنع لعلاجكم) من الطين (من مستخلصات الطين) دواء ذا هيئة رذاذيه كهيئة الجراثيم (الطيّارة) التي أمرضتكم، فأنفخ برذاذ الدواء فيه (أي في المصاب) فيكون المرض (البرص الذي هو الموضوع) طيرا، بمعنى يرتفع المرض ويزول؛ وبذلك أبرئ الأكمه (والكمه هو تبقّع الجلد وتغير لونه) وهو أول علامات الجذام، والأبرص (برص الجذام)، وأحيى الموتى (المنبوذين اجتماعيا) نتيجة لاصابتهم بعدوى الجذام، عبر إرجاعهم وإعادة إدماجهم في المجتمع بمعالجة المرض ووقف العدوى، وأنبئكم بما تأكلون (أي الاكل المناسب والصحي ليقيكم الاسقام والامراض وضعف المناعة، والمعين على مكافحة الامراض)، وما تدخرون (اي ما يناسب ادخاره في البيوت عند تفشي الوباء مما تدوم صلاحيته، ولا يكون تخزينه سببا في جلب الامراض والاسقام، إضافة لتعليمهم علوم التخزين الصحي وكيفيته).