إنّ واقع “ما بعد الحداثة” قد صبغ المثقف بنمط جديد من التفكير. فقد أصبح المثقف يقف من كل المعارف البشرية موقف الحياد؛ فأقصى ما يفعله هو “الوصف”، ورؤية المشهد الثقافي الانساني رؤية فوقانية، فهو يمارس دور “المراقب” الذي يصف المشهد، دون أن يأخذ خيارا وجوديا لنفسه. وكأنما شعوره بأنّه ينطلق من منصة الحياد المطلق يشبع حاجة نفسية لديه.
فالمثقف على سبيل المثال سيبذل وقت كثير في تحليل الظواهر الروحية بوصفها نتاج عوامل نفسية واجتماعية، دون أن يساءل نفسه صادقا؛ ماذا لو كان للتجربة الروحية حقيقة موضوعية؟ إنّه غير معني بهذا السؤال؛ لأن الثقافة عنده أقرب لأن تكون نشاط غرائزيا، وليست قلقا وجوديا وبحثا جادا عن الحقيقة.
وبنفس ضيق الافق هذا سيقبل على التجارب الدينية. إنه يدرسها كما يدرس أي خبرة بشرية أخرى. سيشرح لك قضايا كثيرة مثل حاجة الانسان والمجتمع للدين، فائدة الدين، لماذا ظهر الدين، وما هي تبعات ظهور الدين؛ ولكن ليس يعنيه على المستوى الشخصي والفردي أبدا أن يتحقق من صحة الدين في المستوى الوجودي والوجداني، وليس ذلك من ضمن أجندته المعرفية أبدا.
وهنا نسأل: كيف أثرت (ما بعد الحداثة) على موقف الانسان تجاه الدين؟ ما بعد الحداثة قذفت بالإنسان الى وسط عالم فوضوي لا يعترف بالمرجعيات والأطر. هذه القاعدة لعلها تكون القاعدة الوحيدة المُسلّم بها في تفكير إنسان ما بعد الحداثة. وجدانه ثائر على جميع الأطر والمرجعيات.
فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لموقفه من الدين؟ إنّه يعني أنّه يرى الدين كما يرى كل المرجعيات والأطر وانماط التفكير الاخرى؛ هذه النظرة في الغالب تمنعه من فحص الدين من الداخل، عبر استخدام أدواته، وكذلك تمنعه من رؤية الادلة التفصيلية في الدين ونصوصه. فهو قد أصدر حكما مسبقا – من منطلق وجدانه الثائر – ببطلان كل المرجعيات، والدين إطارا مرجعيا في آخر المطاف.
لذلك فحكمه على الدين دائما سيكون حكما قاصرا، فهو لا يعرفه داخليا، ولا يعرف تفاصيله. إنّه يراه بوصفه إطارا مرجعيا فقط، ووجدانه لا يقبل الأطر، وبالتالي لا يمكن له أن يقبل الدين.
لكن يبقى السؤال: ماذا لو كان هذا الإطار صحيح؟ انسان ما بعد الحداثة لا يحتمل هذه الفرضية لأنها ضد المُسلّمة التي بنى عليها توجهه في الحياة
هذا الموقف الضبابي يهشّم كيان الانسان، وربما يحسب نفسه – وهو يعيش اللامبالاة هذه – أنّه متعالي على صراعات البشر. ولكن في الواقع، وبسبب هذه اللامبالاة – هو يعدم قيمته كإنسان “عاقل” يستطيع تحديد موقعه ضمن هذا الوجود. لقد أغرقتنا ما بعد الحداثة في العدمية والانسدادية من حيث لا نعلم!
ولسان الحال مثقف ما بعد الحداثة: لا أبالي إن كان يوجد خالق أم لا يوجد، لا أبالي إن كانت هناك أخلاق مطلقة او نسبية، لا ابالي ان كان هناك خير مطلق أم لا، لا أبالي إن كانت هناك حياة اخرى أم لم تكن. كل شيء رمادي، كل شيء متساوي باعتباره غير مجدي، كل الخيارات الكبرى المرتبطة بالالتزام بأي نوع من أنواع الأطر أو المرجعيات هي فاقدة للجدوى، وهو ليس معني بأي شيء منها. هو يقول: ليتعارك الجميع، ما شأني أنا؟!
ولقد وصف داريوش شايغان هذه الحالة في كتابه (ما الثورة الدينية) وصفا دقيقا، وسأقتبس منه هذا الاقتباس الطويل: “فلا إله المسيح، ولا إله الفلاسفة” يهمان إنسان زماننا. فهو إنسان لا يقاوم (هذا ولا ذاك) ولا يستفيد من النقاش ولا التفنيد. ولم يعد إنسان اليوم يسعى إلى فهم العالم انطلاقا من ذاته، ولا إلى أن يكون انسانا من دون يقين ميتافيزيقي. وليس هناك (نظرة خير ولا شر ولا مسؤولية ولا ذنب ولا رباط مع نظام ما ولا واجب. ولذا لا يمكنه أن يكون في الواقع مصلحا كما لا يمكنه أن يكون ثوريا لأنه ليس أخلاقيا ولا لاأخلاقيا، وليس متشائما ولا متفائلا، ولا مشغولا بالإنسان ومصيره ولا بالتطور والصيرورة التاريخية. إنه لا ينحاز إلى هذا ولا ذاك. وبما أنّه يعيش حالة غياب كل معنى وكل قيمة، فلا لا يعتبرها ربحا ولا خسارة. ويعني ذلك أنّ الجيل الثالث للعدمية ما بعد النيتشوية في نفي مزدوج: نفي ما كانت الأجيال السابقة تصر على إنقاذه (أي الاعتقاد في استقلالية الفرد الخلاقة)، ونفي الاعتقاد في إمكانية الاندماج في البنى الجماعية القادرة على استعادة “أنا” الافراد المتفككة. وهكذا ليست هذه المرحلة الثالثة من العدمية سوى الانتشار الجدلي لموت الإله، وهو الموت الذي يحدد، منذ نيتشه، الوعي الأوروبي. ولكن، هل وصلت هذه المرحلة الثالثة إلى نهايتها؟ وهل توجد بالنسبة إليها إمكانية “خطوة ثالثة”! الحق أنّ هذه الخطوة الثالثة، بما هي حقيقة محجوبة، متضمنة سلفا في انعتاق الجيل الحالي من كل التزام، لأنّ الشك بوجود الله أصبح في نفسه غير موضوع. ونحن لم نعد نشك لأن الشك – إحقاقا للحق – أصبح هو نفسه غير ذي موضوع. ولسنا متشككين ولا لاأدريين ولا فوضويين، لأن كل هذه المواقف تفترض وجود شيء كان بإمكانه أن يوجد بطريقة أخرى. إنّ انسان اليوم ليس فقط مسلوبا من كل أرض ثابتة تحت قدميه، ولكنه يعرف فوق ذلك أنه لا يستطيع تملكها، فهو ينفي (إضفاء الصبغة المطلقة) على قوى الفرد الخلاقة، تماما كما يرفض في الآن نفسه إطلاقه على الأنظمة الجماعية التي لا تقل وهما عنها. وعلى الرغم من ذلك، فهو يضفي الصبغة المطلقة على غياب كل معنى، أي على العبث. فهل تستطيع جدلية العدمية بعد ذلك الوقوف عند هذا الحد أم ينبغي عليها أيضا نفس الاضفاء الأخير للصيغة المطلقة؟ يقول م لوثر: لن تدرك العدمية شكلها الأقصى حقا إلا عندما يكون إضفاء الصبغة المطلقة على العدم نفسه قد نُفي، أي عندما يوضع العدم النفسي نفسه موضع السؤال” – انتهى الاقتباس.
لذلك فإنّ هذا أخطر ما أنتجته ما بعد الحداثة، هو هذا الشعور بعدم الجدوى او اللامبالاة ازاء القضايا الوجودية الكبرى؛ الخالق/الاخلاق/المعاد الخ. وينبغي الالتفات أنّ هذا الخلل الجوهري الذي نتحدث عنه، ليس مرتبطا بطبيعة الأفكار والقناعات بالدرجة الأولى، بقدر ارتباطه بآلية التفكير، وبمنهج التحليل وتقييم الرؤى الأفكار. لذلك فحتى الملحد على سبيل المثال، إن كان إلحاده مؤسسا على إطار مرجعي للتفكير ومبنيا عليه (بصرف النظر عن صحة أو خطأ هذا الإطار)، فهو لايزال في أفق يسمح له بالتحوّل والتغيير وتبدّل القناعات، والاخذ والرد. أمّا تلك اللامبالاة والعدمية السحيقة التي أفرزها عالم ما بعد الحداثة، فهذه فعلا هوة سحيقة، ومأساة حقيقية يعيشها الانسان، لأنّها أشبه بالسقوط في الفراغ.
وفي حقيقة الأمر، إنّ أي محاولة لمقاربة هذا المشهد الثقافي لعالم من بعد الحداثة، دون الأخذ في الاعتبار طبيعة الحياة المعاصرة، وأنماط العيش التي يعيش فيها إنسان اليوم، وارتفاع نسبة انتشار الامراض النفسية كالقلق والاكتئاب والتوتر، وازدياد حد السأم والملل الوجودي، ستبقى مقاربة ناقصة. بل إنّ التأمل في طبيعة الملل الوجودي الذي يشعر معه الانسان بأنّ كل شيء حوله باهت ومكرر، والذي يجد الانسان فيه نفسه مستسلما لساعات طويلة من غياب أي نشاط حقيقي خلال يومه، يشعرنا بأنّ هناك تشابه بين تلك العدمية الفكرية الناتجة عما بعد الحداثة، وهذا السأم الذي هو أقرب لأن يكون عدميةً على المستوى العملي والسلوكي.
هناك خيط دقيق يجمع الكثير من المظاهر الثقافية والإنسانية في العصر الحديث أي عصر ما بعد الحداثة، باعتبارها كلها أقرب لئن تكون تجليات لخيبة أمل كبرى يعيشها الانسان اليوم. وقد ساهمت الثورات المعرفية الثلاث (كوبرنيكس / داروين / فرويد) بطبيعة الحال في دفع الانسان نحو تلك الخيبة الكبرى. ليس سبب ذلك النظريات في ذاتها، بل في التنافر الحاد الذي أحدثته في الانسان عندما وجدها تصطدم بثوابته ومقدساته. الأمثلة على هذه المظاهر كثيرة، ولكن منها الفلسفة الوجودية الملحدة على المستوى الثقافي، والسوريالية على مستوى الفني، وكذلك نظريات علم الأديان العصبي التي سعت لتفسير كل مظاهر الدين تفسيرا عصبيا أو نفسيا، وغيرها. كل هذه المظاهر والأفكار وغيرها، تقذف بالإنسان إلى تلك المنقطة الرمادية التي ينعدم فيها إمكان التوصّل إلى حقائق كلية أو مطلقة، أو بمعنى آخر حيث تقبع العدمية في أجلى صورها.
يبدو المشهد قاتما نوعا ما، على الأقل في بعض جوانبه، لذلك السؤال الذي ينبغي أن نطرح على أنفسنا بشكل ملح وعاجل هو: ما هي إذن مسؤولية المثقف اليوم؟