لنفترض جدلا أنك رجعت بالزمن للوراء، لمكة المكرمة، حيث زمان بعثة النبي (ص)، وأخذت إطلالة على واقع المسلمين آنذاك، وتأملت في ذاك المضمون الذي كان يتنزّل عليهم من القرآن، والأولويات التي أسّس لها القرآن، وطبيعة التعاليم والوصايا آنذاك، وطبيعة القضايا التي كانت تشكّل أولوية للوحي، ونوعية العقائد التي يمكن أن نقول عنها أنّها هي المهمة والجوهرية والتي تشكّل حقيقة الدين حيث أنّها كانت عماد وأساس الدين!
ثم عدت مرة أخرى لزماننا لتطلّ على واقعنا المذهبي اليوم، فستذهلك، وتصدمك حجم الهوة والمسافة الشاسعة، بين الذي عرفتَه من أولويات الدين، وبين الذي هو من أولويات المذهب اليوم!
فما هي القضايا التي كانت تشغل القرآن المكي؟ إنّها مكارم الأخلاق، وتنزيه الله وتوحيده على المستوى النظري والعملي، والحرية العقائدية، والكرامة الإنسانية، والانفتاح على العالم والناس، والصبر على المكاره والعدوان، ومعرفة النفس وتطهيرها، والثبات ضد الجموع، والحفاظ على التوازن النفسي، والبحث عن المشتركات الإنسانية، والنظر في قصص السالفين لفهم سنن الاجتماع لتجنب تكرار الأخطاء، والمراجعات الشاملة للعقائد الموروثة والمسلمات بميزان العقل والفطرة والقرآن، وتشخيص الأصنام القابعة في الذهن والقلب لتطهيرهما منها حتى يتكيّفا ويتأقلما مع الجديد دون الوقوع في مزلق الازدواجية. تلك هي القضايا الجوهرية، وهي جوهر الإسلام حقّا.
ولكن تأمل في المقابل القضايا التي تشغل المذهب اليوم، ما هي؟ التقليد، والأعلمية، وإثبات بطلان الآخر المختلف والتأكيد على أحقية المذهب، الاستدلال على العقائد المذهبية كالولاية والعصمة والولاية التكوينية والتقية، وأضف لذلك كله الشعائر وأهميتها وفضلها الخيالي، ومحاربة المنحرفين والمبتدعين، وضرورة إبقاء الدين ك”تخصص”، والتأكيد المستمر على محورية العلماء بوصفهم الورثة الحقيقين للأنبياء، وتضخّم المنظومة الفقهية، وتورّم المنظومة الروائية للحد الذي جعلها تسطو على كتاب الله وتزيح العقل من المشهد تماما.
وليس القرآن في الواقع المذهبي إلا كتابا للتبرك والختمات، نشتغل فيه بمعاول التأويل المذهبي لهدم روحه وتوظيف آياته بشكل مخل، وذلك لخدمة المذهب والتأكيد على أحقيته، لدرجة أنّك لو تسأل الكثيرين اليوم عن أشهر الآيات، فسيكون أول ما يتبادر إلى أذهانهم تلك الآيات التي تستخدم لتأكيد أحقية المذهب!
والأمثلة على هذا الأمر كثيرة. خذ على سبيل المثال القصص القرآني. فكم هو مقدار حضورها في كتاب الله، وكم في المقابل مقدار حضورها وذكرها في الواقع المذهبي ومن على المنابر المذهبية. إنّ موسى عليه السلام حاضر في مئات الآيات القرآنية، فقد ورد ذكره بالاسم في القرآن 136 مرة، وفي 34 سورة مختلفة، وتباينت هذه الموارد طولا وقصرا، إسهابا وإيجازا، لتغطي كل مراحل وأحداث حياته الرئيسية، ولغايات متنوعة، وفي إطار مواضيع عديدة ومختلفة. ولكن مع ذلك كم هي نسبة الاهتمام المذهبي بهذا الموضوع؟ وكم أخذ حقه من الفحص والدرس، والتحليل، والنظر، والتدقيق؟ قارن الآن بين ذلك وبين تركيز المنابر المذهبية على الآية الكريمة من سورة التوبة “وما كان المؤمنون لينفروا كافة ۚ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”. والسبب في ذلك واضح، لأنّها آية تُوظّف في خدمة عقيدة التقليد المذهبية. وبعيد عن اقتطاع الآية من سياقها وليّ عنقها، والتعسّف الذي يمارسه أهل المذهب لكي يتم الاستفادة من هذه الآية في خدمة عقائد المذهب بما لا يناسب موضوعها ولا سياقها ولا مناسبة نزولها، إلا أنّ هذه المقارنة تكشف لنا عن أزمة حقيقية وعميقة.
إنّ أول ما ينكشف لنا من هذه المقارنة هو أنّ أولوياتنا لا علاقة لها بأولويات كتاب الله، بل منفصلة عنها تماما. لذلك فالسؤال الذي يفرض نفسه أصلا علينا هنا: هل نحن نصدّق الله؟ هل أخذنا بجدية تكراره لذكر موسى عليه السلام؟ وهل وضعنا المسألة تحت الدراسة والبحث بما يليق مع كتاب الله، أم اكتفينا بالإجابات العامة الفضفاضة لتبرير هذا التكرار الكثير له في القرآن وكأننا نبرء الذمة، ثم صرفنا جهودنا وأوقاتنا للتفصيل في الآيات المذهبية؟ فحين نجد انزياحا كبيرا عن القضايا التي كرّس القرآن ذكرها وكرره بهذا الشكل الضخم، كقصة موسى عليه السلام، في مقابل التمسك ببضع آيات نجدها تفيدنا في الجدليات المذهبية، ينبغي أن نسأل: هل فهمنا الدين أساسا؟
إضافة إلى أنّه من الواضح أنّ المذاهب قد حلّت محلّ الدين في وجداننا ووعينا الديني، وأنّ العصبيات المذهبية أصبحت هي المحرّك الرئيسي في تعاملنا مع آيات القرآن الكريم، حتى أصبحنا نفاضل بينهم بهذه الطريقة نظرا إلى ما نراه مفيدا في تحقيق الانتصارات المذهبية.