الهفوات .. مستفاد من ترجمة جورج طرابيشي للأعمال شبه الكاملة لفرويد – الجزء الأول، وهذا الموضوع هو جزء من محاضرات ألقاءها فرويد حول هذا الموضوع:
الهفوات بحسب فروير أنواع:
منها زلة اللسان، قراءة خاطئة لنصِّ ما، سماع شيء ما بشكل خاطئ؛ ومنها النسيان المؤقت: الاهتداء الى مكان شيء ما، نسيان اسم (كحين نقول: على طرف لساني)، نسيان مشروع قد عزم على تنفيذ، ومنها تضييع الأشياء.
المشترك بين كل هذه الهفوات أنّها حوادث لا تتسم بأهمية بالغة، وغالبا تكون مؤقتة.
ولكن لنبدأ بوضع فرضية: إنّ لهذه الحوادث دلالة ما، ومعنى يتعدى محض العشوائية
وللنطلق في التحليل من زلّات اللسان: سنعرض أولا لبعض التقسيمات في هذا الصدد، نجد ان السيد مرنغر والسيد ماير قد اوجدا التقسيمات التالية: – الاقلاب: كأن تقول ميلو فينوس بدل فينوس ميلو – الاستباق: ما أجثم الهم الذي يجثم على صدري (بدل ما أثقل) – الاستلحاق: أدعوكم الى شرب شخب الفوز (بدل نخب) – الادغام: هل تسمحين أن أرانقك في الطريق (بدل أرافقك). هنا الادغام لعله اقتضى معنى مبطن عند المتحدث بالنفاق. – الإبدال: سأضع اللحم في علبة البريد (بدل الثليج).
الباحثان اللذان وضعا هذا التفسيم يجدان التقارب اللفظي مفسرا لهذه الهفوات، ولكن لعل ذلك غير كاف في تفسيرها بحسب فرويد. لنطرح مثالا الآن، ونتساءل، هل يكفي التقارب اللفظي لتفسير هذه الهفوات: المثال الأول: استاذ يقول للطلبة عن الاستاذ الآخر: لست منكرا جمود الاستاذ الذي سبقني في تدريسكم (بدل جهود). هنا يمكننا ابداء ملاحظة، بأنّ زلة اللسان قد تكون قد أخرجت شيء ما مضمر في داخل الأستاذ المتحدث. لنواصل الآن: ولكن أولا يطرح فرويد سؤالا للتفكير: هل يمكن ان يكون للكلمة المنطوقة دلالة تتعدى التقارب اللفظي؟ لنطرح بضعة أمثلة:
– هناك سيدة اخبرت سيدة اخرى تعليقا على قبعتها ذات مرة: هذه القبعة الانيقة لابد انك خربشتها (بدل أن تقول خيطتها)، فهل نكون مبالغين اذا اعتقدنا ان مكنون تلك المرأة يتضمن نظرتها الى القبعة انها قبيحة.
– أو مثال تلك الزوجة المتسلطة التي قالت: نصح الطبيب زوجي بالحمية الغذائية وبأن يأكل ويشرب ما يريده (أنا). إنّ لفظة (أنا) فلتة، ولكنها فلتة ذات دلالة لزوجة تريد أن تتحكم فيما يأكل زوجها ويشرب. – رئيس المجلس النيابي يدعو النوّاب الى (ارفضاض) الجلسة بدل أن يقول (افتتاح) الجلسة. ألا يمكن أن يكشف هذا عن شعوره الحقيقي تجاه الجلسة؟
وقبال هذه الطائفة التي يعبّر فيها الشخص بشكل مباشر عن مقصده، نجد طائفة اخرى يعبّر فيها الشخص بأصوات غريبة عن معنى ذا دلالة.
– عندئذ انكشرت امور كثيرة (بدل انكشفت). هنا شبكت لفظة انكشفت بلفظة أخرى شريرة، وهذا الشبك الصوتي يكشف نظرة المتحدث عن تلك الأمور التي انكشفت. وهذا شبيه بالمثال الذي ذكرته أعلاه من تعليق الشاب حين قال أرانقك بدل أرافقك. فحتى لو لم يكن تشابه لفظي، وتزاحم بينهما، لا يصعب اماطة اللثام عن القصد عن الهفوات الاخرى.
اذن يمكنكم ايها السادة بناء فكرة الان أنّ هذه الهفوات ليست بالضرورة وليدة الصدفة التامة، وانما الهفوات تنشىء عند تعارض قصدين في ذهن الشخص، أحدهما ظاهر والثاني مستبطن. او حين يكون هناك قصدا متعدي، وآخر متعدى عليه! القصد المتعدى عليه نعيه من لسان الشخص حين يسعى لتدارك خطأه.
وربما تسألون، هل يصدق هذا التفسير على ضروب الهفوات الاخرى التي تحدثنا عنها في بداية موضوعنا؟ لتبرير تفسيرنا، هناك قرائن في العادة تكون موجودة، فمثلا الشاب الذي يريد ان يرافق الفتاة (يرانقها) عندنا نعرف طبيعته، وطبيعة الموقف الحاصل، والوضع النفسي الذي هو فيه، وطبيعة العلاقة بينهما، ندرك قصده.
ولتوضيح هذه الفكرة اطرح لكم المثال التالي: شاب معارض لمجلس الادارة في الاجتماع العمومي يوجه كلامه في خطابه الى ما يسميهم خطأً (لجنة الاعارة) بدل أن يقول (مجلس الإدارة)، ويتضح لنا لاحقا حين نستقي المعلومات أنّه كان بالفعل قد تقدم بطلب إعارة أموال ولكنه رفض من قبل مجلس الادارة الحالي. إذن بالتقصي والبحث والتحليل أحيانا نجد قرائن تعيينا على تفسير الهفوات.
ومن هذا المنطلق يمكننا التوجه لقضية النسيان، لمعرفة قضية القرائن هذه، فالنسيان العادة يكون مُفسّرا بوجود قرينة ما، فاذا كان شخص كثير نسيان شخص اخر او نسيان لقبه، فلعله متحامل عليه، او عنده حاجة أخرى مضمرة في داخله. ومثال على ذلك تلك المرأة التي ما تفتأ تسمي امرأة أخرى بكنيتها قبل زواجها (بمعنى أنّها لا تسميها بكنيتها التي اكتسبتها بعد زواجها)، وحين سئلت اكتشفنا أنها غير محبة لزواجها وغير مؤيدة له بتاتا.
كذلك ذلك الشاب الذي نسي مكان الهدية التي أهدته إياه زوجته، ونسيانه هذا يمكن تفسيره بسبب ضعف علاقتهما، والذي يؤكد ذلك أنّه حين جاء اليوم الذي احسنت فيه زوجته لأمه، وشعر بالامتنان، ذلك اليوم رجع البيت، وأول شيء فعله أنّه اتجه الى المكان الذي خبأ فيه تلك الهدية واخرجها. كذلك رجل كتب رسالة وتركها ايام على مكتبه دون إرسالها، ثم أرسلها، ولكن مكتب الارسال أعادها إليه لأنّه نسي وضع العنوان، وعندنا وضع العنوان، ألقى الرسالة دون لصق الطابع، وعند التحليل اتضح فعلا السبب لأنه اعترف أخيرا أنه لم يكن يرغب اساسا من ارسال الرسال. وكذلك مثال للشخص الذي تأخر في الوصول إلى المكان الذي يريده وأضاع الطريق، رغم انه كثير الذهاب الى مكان ما، وأدرك بعدها انه في داخله لم يكن يرغب في الذهاب الى ذلك المكان. وهذا يصدق على ما ينسى المواعيد أو يذهب لها في وقت خاطئ. وأيضا امرأة أخرى احتفظت بجائزة عن طريق الخطأ ثم لم تستطيع العثور عليها، وهي جائزة كان ينبغي أن تمنح لرفيقها، ولكنها لم تره مهتما بها، وكانت ترغب في الاحتفاظ بها لنفسها.
وبنفس المنوال تفسير نسيان القرارات مثلا. فكثير ما تكشف عن رغبة مضادة، وهذه يصدق على الوعود التي نعطيها ثم لا نفي بها، او تأخرنا في رد للديون وتسديد الفواتير. وهكذا حول تضييع الاشياء وفقدانها، فهناك ميل الى فقدان الاشياء البالية، أو التي عزم المرء على استبداله، او حاز عليها في ظرف غير محبب عليه. وهكذا احيانا يركب المرء قطارا خاطئا او يتنزل في محطة خاطئة. وهناك حالات أخرى غريبة وهي حين يضيّع الناس أشياءً بغير إرادتهم عندما يخافون من الحسد تحديدا لامتلاكهم إيها.
اذن نعود لتقسيم الهفوات لثلاث اقسام: – الاولى وضوح القصد المتعدي عند الشخص صاحب الهفوة – الثاني التباسه ودهشته من الهفوة، ولكنه يقر بسببها بعد حين – والثالث رفضه وإنكاره لدافعه الحقيقي من وراء الهفوة وعدم قبوله بتفسيرها وفق شروط التحليل النفسي
ويؤكد فرويد أنّ جميع الأقسام الثلاثة لهم نفس الدوافع والغايات، ولكنّ الفرق يكمن في نسبة (قمع) الشخص للقصد المتعدي والدافع النفسي الحقيقي. وبما انّ الشخص في كل الحالات قد عزم بعدم السماح للقصد والدافع الحقيقي بالبروز في كلامه بشكل صريح وعلني، نراه يتورط في الهفوات وفلتات اللسان رغم أنفه.
فنستخلص القاعدة التالية: قمع الميل إلى قول شيء بعينه هو الشرط اللازم لحدوث الفلتة.
نختم سريعا بأنواع أخرى للهفوات:
كبوات القلم، ونضرب مثالا: سفّاحُ أوهم الناس أنّه يدرس ويختبر الجراثيم، فكان يحصل من المعاهد على جراثيم مزروعة ذات أثر مرضي شديد، ولكنّه قد أرسل يوما إلى معهد يشتكي من بعض العينات، فذكر في كتابته عن طريق الخطأ عبارة “في تجاربي على (الجيران)” بدل (الفيران). ولكنّها مع الأسف مرّت دون ملاحظة. عثرات القراءة: رجل كان حصرانا، فقرأ closet haus على اللافتة بدل corset haus والأولى تعني مرحاض بينما الثانية تعني محلات مشدّات خصور.