عقيدة “الولاء والبراء” {وعدم جواز الاستغفار للمشركين} – نموذج على عقيدة {عدوانية} مخالفة للقرآن والفطرة
هذا المقال ملخص من الحلقة 46 من برنامج للتي هي أقوم، تقديم الأستاذ جلال القصّاب
لقد أورثتنا كثير من التفاسير السائدة وكتب العقائد والمذاهب عقائد عدوانية ووضعوا لها عناوين براقة مثل الولاء والبراء، مما شوّه علاقتنا بالآخر المختلف، وجعل من آيات الرحمة والتواصي، آيات جامدة ومعطلة. ومن تجليات هذه العقيدة العدوانية، هي فكرة {عدم جواز الاستغفار للمشركين}.
وإننا نرى انعكاس هذه القضية بشكل دائم في وسائل التواصل الاجتماعي كلما توفي أحد على خلاف ديننا أو مذهبنا، فيبدأ بعدها الجدل والمناقشات حول جواز الترحم عليه او عدم جواز ذلك.
في هذا الثريد سنرى كيف أنّ فكرة (عدم جواز الاستغفار للمشركين) هي في الواقع عقيدة دخيلة على كتاب الله، مضادة للفطرة، تشوّه العلاقات الإنسانية التي ينبغي أن تقوم على المودة والرحمة وتمني الخير والاستغفار. وسنرى ذلك عبر النموذج القرآني – إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر.
حين تسأل كتاب ربك وفطرتك النقية السؤال التالي: لو أنّ شخصا من أسرتك توفي، وكان ملحدا، مسيحيا، زرادشتيا، سيخيا، يهوديا، سنيا، شيعيا، او من أيّ مذهب او دين، هل ستتمنى الرحمة والخير له وتستغفر له، أم ستتبرأ منه وتمتنع عن حضور جنازته والترحم عليه؟ أيهما ستختار؟ الجواب الفطري والقرآني واضح، ستترحم عليه وتستغفر، ولكنّ العقائد الملتبسة قد شوّهت تلك الفطرة وتلك القيم القرآنية الواضحة.
لنتأمل الآن قص إبراهيم (ع) وآزر، ونرى طبيعة علاقة إبراهيم بأبيه في جميع حقب ومراحل حياته الشريفة، سواء أثناء حياة أبيه أو بعد موته.
فآيات استغفار إبراهيم (ع) لأبيه ومفهوم البراءة الحقيقي، تعطينا منظومة كاملة في التعامل الإنساني الهادف والمبدئي، لو رتبناها زمنيا في الزمن الابراهيمي، لتنجلي مباشرة الحقيقة المطمورة في العقائد الملتبسة. وهي خمس مواطن نرتبها بحسب زمانها:
الحقبة الأولى: حقبة وجود الفتى إبراهيم مع أبيه ورجائه التأثير فيه وتحذيره أباه الاصطفاف مع الكهنة (عبادة الشيطان)، فالأب الآن مشرك، ولكنه ليس محارباً لله وللحقيقة، ونرى استغفار إبراهيم لأبيه واضحا هنا “قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا”.
الحقبة الثانية: حقبة وجود إبراهيم مع أبيه حين بدأ القوم يُؤذون بالكراهية والبُغض والإكراه مَن تابع إبراهيم وصدّقه، وبدأ المؤمنون بإبراهيم بمقابلتهم بالمثل فيتبرّأون مِن أهلهم المُعادين ومن ولايتهم عليهم، لعدم الاعتراف بأيّ شرعيّة متحّكمة فيهم تُكرههم على المعتقد الزائف، وذلك لئلا يكونوا سببا لإعادة استعبادهم وسلب إيمانهم وإفساد عقولهم بالعاطفة أو بالقوّة وضغط الحاجة. حتى هذه المرحلة، لمْ يتبرّأ إبراهيم مِن أبيه، لأنّ موقف أبيه لم يتطرّف في العداء معه والضغط، لم يتبيّن أنه عدوّ لله فعلاً بعد، ولأنّ الأب نفسه ما زال في مخاض ويُعاني الأمرّيْن، وآية هذه الحقبة “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”.
الحقبة الثالثة: حقبة وجود إبراهيم (ع) مع أبيه واشتداده عليه لدرجة محاربة الحقيقة ومعتنقيها واصطفافه مع الكهنة بالكامل (عبادة الشيطان كما عبّر إبراهيم ع) دفاعاً عن الآلهة، وتقليداً للقوم، وإن كان لم يصطف مع قرار إحراقه، لكن مع نفيِه، وهنا نجد تبرأ إبراهيم (ع) من أبيه أثناء اشتداد تلك الحرب المستعرة. وآية هذه الحقبة: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.
الحقبة الرابعة: حقبة ما بعد رحيل إبراهيم عن قومه ومفارقته لأبيه وقبل بزوغ النبوة. فالآن عادت الأمور، بلا عداوة ولا مواقف براءة، انتهت معركة حرّية العقيدة. وآية هذه الحقبة “رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ”.
فمع تبرّؤه مِن أبيه وتبرّؤِ كل مَن معه من أهليهم لتحييد سلاح الولايات والشرعيات والضغوط وحفظ حرياتهم النفسية والعقلية وخيارهم الإيماني، إلا أنّ مشاعر المعارك تنتهي بانتهائها، والحرب تضع أوزارَها، والضروراتُ تُقدَّر بقدرها، ولا يُوجَد عداواتٌ دائمة، بل قيَمٌ ومبادئ دائمة. هذا ما قاله الله بعد هذه العداوات والبراءات التي كانت يوماً ما مطلوبةً من المؤمنين بناءً على نموذج إبراهيم وأتباعه “عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”.
بل أفصح إبراهيم عن هذه الروح التي تسع الجميع من الضالين في موقع آخر، (وقد صار نبيا رسولا لله) أنّ من يعصيه ويصر على الأصنام ويرفض دعوة التوحيد {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}، فإنك غفور رحيم، لا أحد له حق التحكم في مغفرة الله ورحمته.
الحقبة الخامسة: هنا إبراهيم عليه السلام نبيا ورسولا وإماما للناس وأبو الأنبياء، ونهاية زمن رحلته، أكّد مرّةً ثانية أنه يدعو لأبيه الضالّ، كما يدعو لكلّ الضالين، ممّن لا حرب منهم يُوقدونها بإجرامهم علينا، ولا عداوة لهم لتحطيمنا، ولا موالاة مفروضة منهم تستعبدنا. وآية هذه الحقبة “الحمد للَّهِ الَّذي وهَبَ لي على الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسحاق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّل دُعَاء، رَبَّنَا اغْفِر لِي {وَلِوالِدَيَّ} وَلِلْمُؤْمِنِينَ يوْمَ يقُومُ الحِسابُ”. نلاحظ إذن وعلى خلاف ما تمليه علينا عقائد الولاء والبراء المتضخمة، أنّ إبراهيم عليه السلام ظلّ يستغفر لأبيه من ابتداء حياته حتى نهايتها (أي بعد وفاة أبيه بحقب مديدة) ما عدى فترة اشتداد الحرب مع الكهنة حين كان مع قومه.
فمن أين جاءوا بعقيدة البراءة من المشركين كافة، وعدم جواز الاستغفار لهم؟ هذه الآيات مرتبة ترتيبا زمانيا صحيحا، ترينا أن خاتمة حياة إبراهيم كانت استغفارا لأبيه الذي مات وهو على شركه منذ زمن بعيد.