سأضع هنا أفكار أجدها مفيد من كتاب: The Brain: The Story of You للكتاب David Eagleman حول السلوك الانساني، والأفكار، والإدراك، وطبيعة الواقع الخارجي، وعلاقة هذا الواقع بالحواس.
1. تولد الدلافين وهي تعرف السباحة؛ الزرافة تتعلم المشي خلال ساعات بعد الولادة؛ حمار الوحش يستطيع الركض بعد ٤٥ دقيقة من ولادته. هكذا تولد غالبية الحيوانات وبرمجتها شبه مكتملة حين تستقبل الحياة.
في المقابل يولد الانسان وهو غير مبرمج هذه البرمجة النهائية. فهو يحتاج سنة ليبدأ يتكلم؛ سنتين ليبدأ بتشكيل فكرة في ذهنه، وسنين أكثر ليحمي نفسه ويدافع عنها. لهلة يبدو هذا الفارق هو لصالح الحيوان، ولكن العكس هو الصحيح فإنّ عدم وجود هذه البرمجة الجاهزة في الانسان يمنحه مرونة كبيرة وقابلية على التأقلم مع مختلف الظروف التي يمكن ان يوجد فيها. ويستطيع تعديل برمجته في حال تغيرت الظروف. الحيوان في المقابل يتشكل بسرعة بالغة نتيجة برمجته الجاهزة، ولكن هذا التشكل السريع يمنعه من التأقلم في حال تم وضعه في بيئة مختلفة وظروف اخرى.
2. لماذا يتوتر المراهق أكثر من البالغ في المواقف الاجتماعية، كأن يحدّق فيه شخص غريب بشكل متواصل؟ هناك منطقة في الدماغ يُطلق عليها medial prefrontal cortex، وهذه تنشط عندما يفكر الانسان بنفسه، وبشكل أخص حين يكون هذا التفكير تفكيرا مرتبط بالاحاسيس والمشاعر. هذه المنطقة تنشط بشكل كبير في المواقف الاجتماعية التي يتعرض لها الانسان اذا ما كانت هذه المواقف تحمل دلالة متعلقة بمشاعر. تبلغ هذه المنطقة قمة نشاطها عندما يكون الانسان بعمر ال١٥.
بالنسبة للمراهق فإنّ مراقبة الاخر له تحمل وزن كبير على مستوى الأحاسيس والمشاعر وتخلق حالة هيجان نفسي له، على عكس البالغ الذي قد لا يعير ذلك اهتمام كبير. السبب في ذلك بأنّ المراهق في هذه الفترة من عمره يعير عملية “التفكير بنفسه” “والتقييم الذاتي” اهتمام كبير، بينما البالغ قد يكون تجاوزها وتشكّل طابعه العام عن نفسه. لهذا السبب فإنّ المواقف الاجتماعية تثير انفعالات أشد قوة عند المراهق، لأنه يقيّم ذاته من خلالها! ونجد ذات واضحا في ازدياد نشاط منطقة الmedial prefrontal cortex.
3. طبيعة دماغ المراهق تجعله ميّالا لاخذ المخاطر، والاندفاع نحو التحديات والمغامرات والسلوكيات الخطيرة، اكثر من الراشد. مع تقدم العمر من سنّ الطفولة الى سنّ المراهقة، هناك تزايد في استجابة الدماغ للمكافئات الشعورية المرتبطة بسلوك البحث عن المتعة. هذا النشاط الزائد يكون في منطقة من الدماغ تسمى ب nucleus accumbens.
اضافة لذلك -وفي الوقت ذاته – يوجد لدى المراهق انخفاض نشاط جزئي في المنطقة المسؤولة عن وزن الخيارات واتخاذ القرارات (orbitofronatal cortex). هذان العنصران يزيدان من مقدار الانفعالات والحساسية الشعورية وضعف السيطرة على المشاعر عند المراهق مقارنة بالراشد.
4. كل بضعة اسابيع تتبدل خلايا جلودنا، وكل اربعة شهور، تكون كل خلايا الدم الحمراء قد تبدلت. وفي سبع سنين، كل ذرات جسمنا تكون قد تبدلت، وبالتالي نحن عمليا – بعد هذا التبدل – مختلفين عمّا كنّاه قبل التبدل. فما هو الشيء الذي يجمعنا في كيان واحد. ما هو الشيء الذي يربط كل هذه الشخوص والاعمار المختلفة في كيان واحد؟ إنها الذاكرة.
لوهلة قد نحسب أنّ هذه الحقيقة تجعل من الذاكرة شيئا قويا باعتبارها تجمع كيانات الفرد المختلفة في وحدة واحدة، ولكننا حين نختبر هذه الذاكرة، ندرك هشاشتها. من جهة، فإنّ الدوائر العصبية التي تساهم في نشوء ذاكرة من حدث ما، قد تستخدم نفسها لاحقا في تكوين ذاكرة اخرى، وهذا التعدد في وظائف ذات الدوائر العصبية يخلق ضبابية في الذاكرة وتشويشا وتداخلا في البيانات، فلا نعود نستحضر ذاكرة ما بدون تداخل بيانات ذكريات اخرى في ذات الدائرة العصبية. ومن جهة اخرى، فإنّ الاحداث المتعاقبة على حدث ما تؤثر لاحقا في استرجاعنا للحدث نفسه. تصور ان تكون دُعيت لحفلة عيد ميلاد وبعد سنة انفصل صاحب الحفلة عن زوجته
هذا الانفصال سيؤثر في طريقة استرجاعك العيد ميلاد؛ ستختلق حقائق جديدة. ستقول مثلا: لاحظته اثناء الحفلة كثير الصمت فيبدو انّ المشكلة بينهما قديمة. لاحظ انّك تقوم هنا بتغيير الحدث التاريخي بناء على احداث لاحقة عليه، فانت هنا تحرّف الذاكرة وتعيد تشكيل الماضي.
5. هشاشة الذاكرة نحن نتصور انّ الذاكرة هي مثل الفلم المسجل الذي يتمّ استرجاعه او تشغيله؛ في الواقع الامر ليس كذلك وانما نحن نقوم بإعادة تشكيل الذاكرة بشكل دائم ومستمر.
في تجربة اجرتها احدى الجامعات: قاموا بأخذ مجموعة من الاشخاص لاختبار طبيعة عمل ذاكرتهم. قاموا بعدها بالتواصل مع عوائلهم لتدوين بعض ذكرياتهم التي تعرف عنها عوائلهم. بناء على المعلومات المستقاة من العوائل، قام الباحثون بتدوين اربع قصص من ماضي كل مشارك، ثلاثة من هذه القصص حقيقية، بينما الرابعة مختلفة ومزيفة، بمعنى انها لم تحدث اطلاقا.
مفاد القصة الرابعة المختلفة هي التالي: أنّ المشارك قد اضاع ابويه في طفولته حين كان في مجمع تسوق معهم، فوجده شخص مسنّ لطيف واعاده الى عائلته. الغريب جدا انّ مجموعة كبيرة من المشاركين اكّدوا حصول الحادثة (الحادثة التي لم تحصل قط). وفي الاسابيع اللاحقة قاموا باضافة تفاصيل على القصة المختلفة لدرجة ان بعضهم قد قام بوصف نوع لباس الشخص المسنّ الذي وجده.
لذلك فالحدث فضلا عن كون الذاكرة الان افترضت وجوده رغم عدم وقوعه، قامت ايضا باضافة عناصر جديدة عليه. الذاكرة ليس عملية استرجاع كما نتصور، وانما عملية اعادة انتاج وصياغة وتعديل واضافة للاحداث.
عندما نتذكر احداث الماضي يجب أن ندرك اننا لا نشاهد فلما، وانما طريقة تذكرنا للماضي تتأثر بأفكارنا ومشاعرنا ومعتقداتنا الحاضرة، بما كنا نتمناه ان يكون، بالقصص التي قصها الاخرين عن اعتقادهم بناء، وغيرها من العوامل.
6. كل تجاربنا في الحياة تؤثر على هيئة دماغنا الظاهرية (المستوى البيولوجي). هذه التأثيرات حتى ان لم نرها بالعين ولكنها موجودة، ابتداء من التعبير الجيني، والمركبات الكيميائية، وطريقة التشبيكات والدوائر العصبية فيه. القصد من التجارب أمور كمنشأنا وعائلتنا، ثقافتنا وعاداتنا، أصدقائنا، عملنا، وحتى اشياء أصغر مثل حواراتنا اليومية أو الأفلام والمسلسلات التي نشاهدها. كل خبرة وتجربة نمر بها تترك بصماتها في تشكيل دماغنا وجهازنا العصبي.
فالذين نقرر بناء علاقات معهم، البرامج التي نقرر متابعتها، الامور التي نسمعها، المشاعر التي نشعر بها، وجميع تجاربنا الحسية، لها تأثير بيولوجية مباشرة على شكل أدمغتنا وأنظمتنا العصبية ووظائفها. ومن جهة اخرى، نحن في الغالب لا ندرك الاشياء الخارجية كما هي، وانما ندركها كما نحن، ندركها بناء على جيناتنا وتجاربنا وطريقة تشكّل دوائرنا العصبية. وهذ التشكيل الخاص لكل فرد، ويمنحه فرادة خاصة ووعي خاص واختلاف في طريقة نظرته للعالم.
7. ما هو الواقع بالنسبة لنا؟
تقتحم حواسنا العديد من المنبهات طوال اليوم. عالمنا مليء بالمنبهات الحسية، مشاهد، اصوات، وروائح، الخ. ولكن في الحقيقة، هل ما ينطبع في أذهاننا منها هو نفسه الموجود في العالم الخارجي؟ هل ما ينطبع في أذهاننا هو صورة حقيقية لما في الخارج أم هو من تركيب دماغنا؟
شعورنا لملمس الاشياء، سماعنا لها، مشاهدتنا لها، الروائح التي نشمها؛ في الحقيقة لا تدخل الينا ك”صور جاهزة” التي فقط تنفذ عبر نوافذ الحواس لتستقر في الذهن؛ ولكنها في الحقيقة تنشأ في الدماغ عبر آلية يستعملها الدماغ في التفاعل مع هذه المنبهات الحسية الخارجية.
كل المنبهات التي تدخلنا عبر الحواس، تدخل للصندوق الاسود القابع في الجمجمة والفاقد لأي اتصال بالعالم الخارجي، فتتحول هذه المنبهات الى موجات كهربائية ومركبات كيمائية داخل الدماغ فيقوم الدماغ بعدها بإنشاء تصوره عنها. فكيف ينشأ الدماغ هذا التصور؟
8. قبل الحديث عن كيفية تحول المنبهات الحسّية إلى صور في الدماغ، ينبغي أن نعرف أنّ عمل الحواس في نقل الواقع الخارجي للدماغ هو اكثر تعقيدا مما نتصور. لنأخذ البصر مثال: يعتقد البعض أنّ البصر يعتمد على العين فقط؛ وأنّ عمل العين هو شبيه بعمل الكاميرا، ما ان نفتحها حتى تقوم برصد الواقع كما هو. في الحقيقة الأمر ليس كذلك، وهو اكثر تعقيد من ذلك. أولا الإبصار هي عملية تتم في الدماغ وليس في العين.
ثانياً: الاعتماد في الابصار ليس فقط على عين تشتغل بشكل صحيح وانما هي تجربة جسدية كاملة تشمل عناصر عديدة. فالاشارات التي ترد الدماغ من العين لا يمكن ان يكون لها صيغة واضحة في الدماغ إلا عبر التدريب وعبر مساعدة من بقية افعالنا وبقية حواسنا. نحن لا نبصر بالعين فقط.
في احدى التجارب تم وضع قطتين تسيران في ذات المسار الدائري ولكن مع فارق بسيط بينهما: تسير إحداهما على قدميها بينما الأخرى محمولة. وجدوا أنّ نظام الابصار عند القطة السائرة على قدميها تطور اكثر من المحمولة لأنها استطاعت ربط البصر بسيرها على قدميها وبحركة جسدها وكذلك مع بقية الحواس.
9. كيف يحوّل دماغنا موجات كهربائية الى ادراك واعي للعالم الخارجي؟ يقوم ذلك عبر مقارنة الاشارات التي ترده من مختلف المنبهات الحسية بما هو موجود اساسا في داخله. هذه المقارنة تسمح له بوضع تخمين لما هو موجود في الخارج فعلا. فالصورة المتشكلة في الدماغ عن طبيعة الواقع الخارجي تعتمد بشكل كبير على ما هو موجود في الدماغ اساسا؛ لأن دماغنا يحمل صيغة معينة للواقع الخارجي حتى قبل ان يدخل هذا الواقع للدماغ عبر الحواس.
فليس صحيح مثلا ان البصر يبدأ من العين وينتهي في الدماغ. هذا التصور الخطي (من الخارج الى الداخل) لعملية الابصار غير دقيق. عند دخول الضوء عبر العين، يمر بمنطقة اسمها المِهاد، التي بدورها تمدّ موصلات عصبية كثيرة الى مركز الابصار في الدماغ حيث تتشكل الصورة للعالم الخارجي. لكن الغريب والملفت جدا انّ الموصلات العصبية التي تخرج في الاتجاه المعاكس (من مركز الابصار باتجاه المهاد) هي عشرة اضعاف تلك التي تخرج من المهاد الى مركز الابصار في الدماغ.
ماذا يعني هذا؟
إنه يعني انّ مركز الابصار في الدماغ عنده تخمين مسبق لشكل العالم الخارجي وهذا الشكل يتم تصديره للمهاد التي بدورها تقارن هذا الشكل المعد مسبقا بما يدخلها الان عبر العين، لتقوم باعادة ارسال اشارات لمركز الابصار حول الاختلافات بين الشكل المتوقع للعالم الخارجي وبين حقيقة ما دخل عبر العين. لذلك فما نراه يعتمد على ما هو موجود بشكل مسبق في دماغنا اكثر مما هو موجود في الواقع الخارجي.
10. العالم الخارجي هو عالم بلا ألوان او اصوت او روائح، وانما الالوان والاصوات والروائح هي جميعها من صناعة ادمغتنا. اللون الاحمر مثلا هو ترجمة الدماغ “لطول موجي” محدد. داخل الدماغ يتم انشاء تصور “اللون الاحمر”.
الانسان يستطيع فقط استقبال جزء بسيط من طيف الاشعة الالكترومغناطيسية (ما بين تحت الحمراء والفوق بنفسجي) الذي لا يشكل الا واحد من عشرة ترليون من الطيف الكامل، لانه ليس لدينا الا مستقبلات تسمح بالتقاط هذه الحدود من الطيف؛ فعمليا نحن كائنات عمياء الا عن حدود بسيطة وضئيلة جدا من العالم، ولكننا نظن اننا نرى الواقع كما هو.
الاصوات كذلك؛ موجات في الهواء يستطيع الدماغ التعامل معه وتحويلها الى اشارات كهربائية ليقوم بفهمها في صيغة صوتية. الذي دخل لم يكن صوتا ولكن ما انتجه الدماغ هو الصوت. نفس الفكرة للروائح، جزيئات كيميائية يقراها الدماغ بشكل يعطيها صيغة روائح. العالم الخارجي ليس عالما مليئا بالخبرات الحسية، وانما دماغنا يقوم بتفعيل نظامه الادراكي الحسي ليخلق تصورا حسيا للعالم الخارجي.
11. هناك جانب غرائبي آخر للواقع، وهو يمكن في طريقة شعور دماغنا “بالزمن”. في بعض الأحيان يبدو مرور “الزمن/الوقت” لدماغنا أسرع او أبطىء من حقيقته في الواقع الخارجي. فشعورنا بالوقت الى حد ما كذلك من إنتاج عالمنا الداخلي. لنفترض أنّك تعرضت لحادث خطيرة جدا كسقوطك من مكان مرتفع. دماغنا سيتصور بأنّ حدث السقوط قد اخذ وقتا اطول مما هو في الواقع. يقوم الدماغ بتزييف حقيقة مقدار الزمن الذي مرّ. فلماذا يكون ذلك؟ السبب يكمن في الذاكرة.
أثناء سقوطك من مكان مرتفع، يقوم الدماغ (من خلال لوزة المخ (amygdala) بالتقاط وتصوير أدق التفاصيل المحيطة بالحدث. وبسبب الكم الهائل من التفاصيل الذي نستذكرها من ذلك الحدث، فإننا عندما نفكر في الحدث لاحقا او نسترجعه، لا يمكننا تخيل أنّ الحدث قد مرّ بتلك السرعة الكبيرة، وبالتالي فإنّ التصور الذي ينشأ في الدماغ هو أنّ الوقت قد تمدد. واغلب الذين يمرون بحوادث خطيرة جدا سيشعرون بتباطىء الزمن لنفس هذا السبب. في الحقيقة لم يتمدد الوقت، وانما ادراك دماغنا للزمن هو الذي يخلق هذا التصور بتمدد للزمن.
12. عندنا تستيقظ من النوم كل صباح، فأنت تكون مدرك لذاتك، وجودك حيّ، حاجاتك، رغباتك، خططك، وتكون مستعد للتفكير في اهدافك وعلاقاتك، وتقود تصرفاتك؛ ولكن، كم هو مقدار ما يمتلكه وعيك من سيطرة على مجريات يومياتك؟
افترض انك تقرأ هذه الكلمات الان. عندما تقلب عينيك على الكلمات والحروف، فأنت في الغالب غير مدرك للقفزات السريعة التي تجريها العين اثناء القراءة. فالعين لا تتحرك بشكل انسيابي على الحروف والكلمات، وانما تثبت نفسها على نقطة معينة من المقال وبعد اخذ صورة لتلك النقطة تقفز لنقطة أخرى. أثناء هذه القفزات انت لا تقوم بالقراءة، وانما القراءة كانت فقط اثناء ثبوت العيون على النقاط المحددة. وما يدخل الدماغ من المقروء هو في الحقيقة الصور التي تلتقطها العين حين تثبت على نقاط محددة من النص المقروء.
ما هي عملية القراءة هذه؟ هي عبارة عن دخول مجموعة من الصور لرموز مكتوبة الى الدماغ لتعطي – حين تكون مجتمعة مع بعضها – معنى ودلالة ما، بناء على خبرة سابقة موجودة في الوعي. ومع اعتيادك وتمرسك على القراءة، لن تكون مدركا لقيامك بهذه العملية الشاقة والمضنية التي يقوم بها الدماغ لفهم الرموز الموجودة في النص المكتوب. الدماغ سيقوم بكل المجهود من وراء المسرح وبسهولة بالغة، ولن تكون أنت ملتفت اصلا لذلك.
هذا المثال البسيط هو مدخلا للسؤال التالي: من يملك السيطرة على مجريات حياتك؟ هل هو انت امّ انها برمجتك الجاهزة التي تعمل لوحدها، دون رقابة او ارادة منك؟
13. بداية لنتصور كيف يعملان الوعي واللاوعي في الوقت ذاته افترض انك جالس معي في احد المقاهي؛ سترى انني ارفع كوب القهوة بيدي لأشرب منه في حركة هي من البداهة بحيث يكاد يستحيل ان تلتفت اليها. ولكن هل يمكنك تصور حجم العمل الذي يقوم الدماغ به للقيام بهذه الفعل؟
هذا الفعل لوحده يستدعي عمل وتنسيق ترليونات من الاشارات العصبية في الدماغ. اولا النظام البصري يرصد المشهد ليقوم بتحديد موقع الكوب بالضبط (في ذات الوقت الذي ينشط فيه مخزون هائل من الذكرة المرتبطة بخبرتي مع القهوة في الدوائر العصبية).
ثانيا الفص الجبهي للدماغ يعطي اشارة للقشرة الحركية التي بدورها ترسل اشارات تنسيقية وتحريكية لعضلات اليد والجسم لكي استطيع مد يدي لتناول الكوب. وحين تلمس اليد الكوب، تقوم الاعصاب التحسسية بنقل اشارات الى النخاع الشوكي ومن ثم الدماغ حول وزن الكوب وموقعه في الهواء وحرارته ورطوبته. في الوقت ذاته، هناك سيل من الاشارات العصبية التي تتحرك في الاتجاه المعاكس. هذه الاشارات تشمل اجزاء في الدماغ كالقشرة الجسدية الحسية، العقد القاعدية، المخيخ، وغيرهم.
في اجزاء من الثانية هناك حسابات دقيقة تجري في الدماغ للقيام بتعديلات عضلية لقوة رفعي لكوب القهوة وتحريكه في مسار صحيح باتجاه الفم. ومن بعدها تعديلات اكثر دقة لكي ارتشف بفمي شيء بسيط من القهوة من دون ان اصبها على نفسي او ارتشف اكثر من حاجتي. بينما على مستوى الوعي فإنّ كل ما اعرفه عن العملية السابقة هو: هل شربت القهوة ام لا؟ لكني لا اعرف عن ذلك الاعصار العصبي الضخم الذي كان يموج في دماغي لتنفيذ هذا الفعل البسيط.
بشكل عام فإنّ اللاوعيّ يشتغل بشكل سريع وهائل ومستمر ودائم في حين اننا نكاد لا نلحظ شيء من هذا الاشتغال. ومدار اشتغاله هو اكثر بكثير من هذه الافعال الجسدية.
14. خلال حياتنا، تعمل أدمغتنا على اعادة بناء نفسها بصناعة دوائر عصبية للقيام بالمهام الروتينية كالمشي والسياقة والسباحة. هذه القدرة على صناعة برمجيات داخل الجهاز العصبي هي من اقوى المهارات التي يمتلكها هذا الجهاز. يقوم الدماغ بأفعال معقدة جدا وهائلة، ولكن باستخدام طاقة ضئيلة جدا لانه يعتمد على هذه الدوائر العصبية الجاهزة التي تمت صناعتها. وبمجرد تشغيل احدى الدوائر هذه، فإنّ الانسان يستطيع بشكل غير واعي القيام بعمل ما بشكل سلس، وفي الوقت نفسه يتفرغ لاداء مهام اخرى.
افترض انك تسوق السيارة للعمل صباحا، وبسبب البرمجة المعدة مسبقا للسياقة، فإنّ ذاتك الواعية التي نهضت من السرير وقررت الذهاب للعمل، قد فقدت الاتصال باللاوعي، ولم تعد هي نفسها الذات التي تسوق السيارة، بل كأنها احد الركاب. وكذلك الحال مع بقية المهارات، كثير منها في مجال اللاوعي؛ بل انّ محاولة التركيز فيها اثناء القيام بها واستحضارها في مجال الوعي، قد يخفّض من جودة الاداء. اللاوعي لديه القدرة على القيام بوظائف عديدة وبشكل سريع حين “لا” يتدخل العقل الوعي. وإنّ سيطرة اللاوعي لا تقتصر على الجسد ومهاراته فقط وانما تمتد لمجالات اكبر. لاحظ نفسك حين تتحدث بلغتك الأم، لاحظ كيف تنساب الاصوات والكلمات منك بشكل متسارع ومطرد. الدماغ خلف الكواليس يعمل بشكل مكثف لإمدادك بالافكار والكلمات بشكل سريع. ثم قارن ذلك بنفسك حين تتحدث بلغة اجنبية للتو تتعلمها.
15. هناك تأثيرات خفية الى اللاوعي على افكارنا وخياراتنا. تأثير في علم النفس يسمى “التهيئة” (priming) وهو زيادة الحساسية تجاه مثير معين بسبب تجربة اخرى؛ وهذا يعتمد على الذاكرة اللاواعية. مثال ذلك: عندما نمسك كوب قهوة ساخن فإننا نكون اقرب لوصف علاقتنا بعائلتنا بالحميمية منا اذا كنا نمسك كأس عصير بارد. فالدفء في الكوب اثر على وصفنا للعلاقة فوصفناها بالحميمية.
بنفس الطريقة عندما نكون في بيئة برائحة سيئة، فاننا نميل لوصف افعال الاخرين بالّاأخلاقية. وعندما نجلس على كرسي صلب، نكون اكثر حدة في التفاوض من الكرسي الرخو.
تأثير اخر اسمه implicit egotism وهذا التاثير يشير الى انجذابنا الى ما يذكرنا بأنفسنا. مثلا تم ملاحظة أنّه بين الذين يعملون كأطباء أسنان (dentist) هناك زيادة في الذين اسمائهم Dennis / Denise. فاللاوعي لهؤلاء يدفعهم لاختبار تخصص يشبه اسمائهم.
وكذلك Laura / Laurence كمحامين lawyers. الازواج ايضا هناك ملاحظة لميل خفي ولاشعوري للشخص لاختيار شريك يحمل اسما فيه اشتراك ببعض الحروف او الاصوات Donny and daisy Alex and amy.. Jenny and joel.
16. كيف نقرر؟ افترض انك تشاهد هذه الصورة؛ احيانا ترى صورة الشابة، واحيانا اخرى ترى صورة المرأة العجوز. فما سبب ذلك؟ لماذا نرى صورتين مختلفتين في اوقات مختلفة؟
لابد أنّ شيء ما يتغير لتتغير لنا الصورة! وطالما أنّ هذا الشيء ليس في الصورة نفسها، فاذن حتما هناك تغيير في دماغنا. في كل مرة نرى فيها الصورة، يقرر دماغنا – ولو بشكل خفي وغير واعي – رؤية احدى الصورتين فقط.
في احدى التجارب قاموا بقياس النشاط الكهربائي في الدماغ عند النظر لهذه الصورة، وبالفعل كان نشاط الدماغ عند انعكاس صورة المرأة العجوز مختلف عن نشاطه عندما تكون الصورة المنعكسة هي صورة المرأة الشابة!
لكل قرار نتخذه، مهما كان صغيرا، يوجد معه كم هائل من انماط الانشطة الكهربائية والكيميائية في الدماغ، وتلك الأنشطة مختلفة عن الأنشطة المصاحب لقرارات اخرى؛ وهذه الانشطة المختلفة ناتجة عما راكمناه في داخلنا طوال حياتنا؛ وهي (أي الأنشطة) – بما تنتجه من قرارات – تحدد خبرتنا تجاه العالم. لنتأمل في كل قرار بالحرب، بالسلم، بالعدوان، بالمحبة، بالقتل، بالفساد، بالزواج، فإنّ هناك نمط معين من النشاط الدماغي يقبع خلفه. وقبال مختلف الشبكات العصبية المتباينة والمختلفة داخل أدمغتنا، فإنّ قراراتنا ستكون ناتجة عن الشبكة الاقوى رسوخا وثباتا. فما هي أقوى شبكاتنا العصبية؟
17. معضلة القطار. جدلية العواطف والمنطق. افترض انّ عربة الترام تسير باتجاه خمسة أشخاص مقيّدين (أو عاجزين عن الحركة) مُمَدّدين على السكة الحديدية. وافترض أنك تقف بالقرب من العَتَلَة التي تتحكم بمحول السكة الحديدة.
إذا سحبت العَتَلَة، ستنحرف العربة وستتجه إلى المسار الثانوي الآخر، وسيتمّ إنقاذ خمسة أشخاص على المسار الرئيسي مقابل دهس شخص اخر مُمَدّد على المسار الثانوي. أنت هنا أمام خيارين: الخيار الأول هو ألّا تفعل شيئًا وتسمح للعربة بقتل خمسة أشخاص على المسار الرئيسي. الخيار الثاني هو سحب العَتَلَة، وتحويل العربة إلى المسار الثانوي وحينها سوف تتسبب بقتل شخص واحد. ماذا ستفعل؟
الان افترض شيء اخر؛ افترض انّ عربة الترام تسير باتجاه الاشخاص الخمسة، ولكن هذه المرة، بدل امكانية تحويل المسار بسحب العَتَلة، فإنّك تمتلك امكانية دفع رجل ضخم يقف بالقرب منك على المسار، فيتعطل سير العربة نتيجة ثقل وزنه. فهل تدفعه؟
ما هو الفرق بين السيناريو الاول والثاني؟ اليس في الحالتين يوجد مقايضة شخص مقابل خمسة؟ حاول الاخلاقيون الاجابة عن هذا السؤال كثيرا؛ ولكن من وجهة نظر العلوم العصبية فالجواب مباشر:
في السيناريو الاول يتعامل الدماغ مع المسألة بشكل رياضي صرف، واحد مقابل خمسة؛ هنا تنشط مراكز المنطق والحساب في الدماغ. بينما في السيناريو الثاني عليك ان تتفاعل جسديا مع الرجل وتدفعه لحتفه؛ هنا يحدث شيء اخر: هنا تنشط مراكز العاطفة في الدماغ.
18. إشكالية العربة السابقة تسلط الضوء على بعض السيناريوهات الواقعية في الحياة وتعطي جزء من تفسير إقدام البعض على خيارات سيئة.
في الحروب مثلا؛ عندما يطير طيار فوق المدن والمدنيين، وتكون المسألة في نظره مجرد ضغطة زناد، ليلقي بأطنان الصواريخ على رؤوس الناس. فإنّ الدماغ قد يصورها كألعاب الفيديو حيث انه لا يفعل سوى الضغط على الزناد. هنا مجددا مراكز المنطق هي التي تنشط في الدماغ، وليست المراكز العاطفية.
لذلك اقترح بعضهم بأنّه ينبغي وضع زناد الحرب في صدور اعز اصدقاء الذين يملكون قرارات الحرب والتدمير، لأنّ ذلك سيدخل عنصر العاطفة وسينشط مراكز العواطف في ادمغتهم عند اتخاذهم قرار الحرب، وهذا قد يكون له نتائج ايجابية لصالح الناس.
قال قدماء اليونان، نحن كسائقي العربات، دائما نحاول الموازنة بين حصانين، حصان العاطفة وحصان العقلانية، وعلينا مسك اللجام من النصف، لأنّ ميل العربة باتجاه حصان دون اخر، قد يدفعها الى الهاوية.
19. هناك علاقة وثيقة بين الانفعالات الشعورية والجسدية وبين توجهاتنا وافكارنا. في تجربة أجريت على مجموعة من الاشخاص، للنظر في العلاقة بين الشعور بالاشمئزاز وبين الاراء السياسية.
تمّ عرض صور مثيرة للاشمئزاز على مجوعة من الاشخاص، كصور الفضلات، وصور اكل مغطى بالحشرات، واحيانا صور جثث، وبعد ذلك تم عمل استبيان لسؤال هؤلاء الاشخاص عن آرائهم السياسية في قضايا جدلية متعددة مثل: – حيازة الاسلحة عند المواطنين – الجنس قبل الزواج – الاجهاض، الخ.
وجدوا انّ اولئك الذين كانوا يشمئزون اكثر من الصور، كانوا اكثر ميلا لاخذ موقف محافظ من هذه القضايا السياسية الجدلية، بينما الاشخاص الذي اشمئزوا بشكل اقل، كانوا اكثر تحرر وليبرالية باتجاه هذه القضايا. نسبة الدقة في هذه العلاقة بلغت ٩٥٪.
20. كما أنّ الماضي يساهم بشكل كبير في تشكيل خياراتنا الحاضرة فإنّ المستقبل له دور ليس صغيرا في عملية القرار هذه. عقولنا تقوم باستمرار بصناعة تنبؤات مستقبلية لجميع المسارات والخيارات حين نهمّ باتخاذ خيار ما، وكذلك تقدّر مقدار المكافئة الشعورية الناتجة عن كل مسار.
افترض مثلا إنك امام ثلاث خيارات:
- أن تذهب للتسوق
- أن تجلس لانهاء تقريرك قبل انتهاء الفترة المحددة لذلك
- أن تذهب مع طفلك الى الحديقة.
الدماغ حين يختار فهو يقدّر المتعة في الخيار الاول، وكذلك يتنبأ بالضرر الناتج عن عدم تسليم التقرير، ويتنبأ كذلك بالراحة التي ستشعر بها حين تلعب مع طفلك وصغيرك؛ وبناء على مدى قوة هذه التنبؤات والمكافئات المرتبطة بها، يقوم بالاختيار.
ولكن هذا ليس كل شيء، فهذه التقييمات الداخلية للخيارات المتاحة ليست مكتوبة بالصخر، وهي عرضة للتغيير الدائم بناء على خبراتنا وما يحصل على أرض الواقع (غالبا تنبؤاتنا لا تكون دقيقة، والمخرجات الحقيقية لا تكون كما تنبأنا).
افترض انك قررت الذهاب للحديقة ووجدت صديقك وطفله ايضا هناك، فستجد أنّ خيار الحديقة يتعزز في اللاشعور لأن المخرج افضل من التنبؤ. فأين يحدث هذا الشيء في الدماغ؟
هناك منطقة مسؤولة عن اعادة تقييمنا الدائم للعالم تقوم بتحديث شكل تنبؤاتنا بشكل دائم، وهي تقع في الدماغ الاوسط عبر شبكة اتصالات عصبية بين المادة السوداء (Substantia Nigra)والمنطقة السقيفية البطنية (ventral tegemental area)، والهرمون الرئيسي في هذه الاتصالات هو الدوبامين (dopamine).
عندما يكون المخرج من خيارنا لا ينسجم مع التنبؤ الذي وضعناه له، يقوم هذا النظام (من خلال الدوبامين) بتشغيل نفسه لاعادة التقييم واعطاء الخيار هذا قيمة تنبؤية جديدة.
21. صحيح أنّ العقل يتأثر بمآلات الامور المستقبلية حين يهم المرء لاتاخذ قرار، ولكن هناك عامل اخر هائل ايضا يؤثر ولكن في اتجاه معاكس، وهو ضغط اللحظة والمتعة الحاضرة الآنية.
الاثر القوي لضغط المتعة اللحظية يفسر لماذا تأخذ الناس قرارات ضارة رغم المآلات السلبية لهذه القرارات؛ كأن يشرب شخص الكحول رغم معرفته ضرر ذلك عليه، أو رياضي يأخذ الستيرويد رغم معرفته بأنّ ذلك يقلل من عمره الرياضي سنوات عدة.
لماذا يقوم الانسان بذلك؟ لأنّ متعة اللحظة مغرية ولها سطوة كبيرة على الانسان. قوة اللحظة وهيمنتها على النظام العصبي يفسر لنا لماذا أثر المآل والمنظور والمستقبل يبدو شاحبا قياسا بأثر متعة اللحظة الحاضرة.
هذه الهيمنة العصبية لمتعة اللحظة الانية يتم استغلالها من الشركات والإعلانات. مثلا: دائما يعطونك فرصة تجربة السيارة عندما تبحث عن سيارة للشراء، او يعطونك غرفة لقياس الملابس في محلات الملابس؛ كلها تمنحك المتعة الحاضرة. هذه هي اشكالية الادمان، فالمدمن رغم انّ دماغه يصور له خطورة المآل الا انه يسقط فريسة المتعة الحاضرة. هل نستطيع ان نفعل اي شيء حيال هذا الاثر التخديري لهذه المتعة؟
22. انتهينا بسؤال: كيف يمكننا ضبط الاثر التخديري للمتعة اللحظية على قراراتنا؟ في الواقع يمكن التخفيف من حدتها عبر إحداث تغييرات في المعطيات الحاضرة الان، بحيث اننا لا نسيء التصرف مستقبلا عندما تطرأ المتعة!
مثلا: اذا اردنا إلزام أنفسنا بالذهاب للنادي الصحي ونخاف على انفسنا من عدم الذهاب لاحقا بسبب الكسل واغراء الانشطة الاخرى، فإننا نستطيع مثلا ان نتفق مع صديق للذهاب هناك. بهذا الاجراء الصغير، نمنع أنفسنا من الانهيار أمام ضغط الكسل مستقبلا، بسبب وجود قيد اجتماعي ملزم لنا بالذهاب.
مثال ايضا على ذلك: الطلبة في الامتحانات النهائية يتبادلون كلمة المرور لصفحات (الفيس بوك) لكي يمنعوا انفسهم من دخوله وقت المراجعة.
ذات التحدي يكون عند مدمني الخمر: فإنّ أولى خطوات محاربة الادمان هو ازالة الخمر مع كل ايحاءاته من منزلهم؛ وذلك لكي يزيلوا المحفزات ويضعوا حواجز تمنعهم من السقوط حين يعرض لهم ضغط المتعة والرغبة. لاحظ هنا نحن نزيد امكانية اتخاذنا القرار الصحيح مستقبلا عبر خلق الظروف التي تؤهلنا لذلك.
الشيء المهم هنا ادراكنا اننا قد نتصرف بشكل مختلف في الظروف مختلفة؛ ولاتخاذ قرارات صحيحة علينا ليس فقط معرفة “انفسنا” في ظرف واحد وانما معرفتها في الظروف المختلفة.
جدير بالذكر أنّ ال dorsolateral prefrontal cortex ينشط عندما يقوم الشخص باختيار الاكل الصحي مثلا من ضمن الخيارات، او عندما يتنازل الشخص عن متعة آنية كبيرة مقابل شيء افضل على الامد الطويل. ولكن رغم اهمية هذه المعرفة، الا انها ليست كل شيء في عملية اتخاذ القرار؛ هناك عوامل اخرى!
23. ليس التصارع بين ذواتنا المختلفة، او بين المتعة الآنية والمآل، هي وحدها العوامل المؤثرة على اتخاذ القرار، بل هناك عوامل اخرى كوضعية جسدنا المتبدلة اثناء اتخاذ القرار.
في أحد السجون تم استدعاء سجينين لنفس التهمة – بعد قضاء اغلب حكمهم – ليُنظر في امرهم من قبل اللجنة ان كان يمكن العفو عنهم مبكرا. أحدهم وصل للقاعة الساعة ١١:٢٧ صباحا والثاني وصل ١:١٥ بعد الظهر. تم إبقاء الاول في السجن وإطلاق سراح الثاني. ما هو السبب؟ العمر؟ لون البشرة؟ العرق؟
لم يكن أي من هذه العوامل هو السبب. ففي تجربة اجريت سنة ٢٠١١ على مجموعة كبيرة من القضاة، اكتشفوا انّ العامل هو الجوع. في مثالنا بمجرد السماح للقضاة بأخذ استراحة الغداء لاشباع بطونهم الجائعة، ارتفعت نسبة العفو عن المجرم بشكل كبير.
لاحظ انّ مصير حياة سجين تتحدد عبر الضغط العصبي لقاضي بحاجاته الغرائزية. تسمى هذه النظرية ب”استنفاد الأنا” وهي تشير الى انّ مراكز الدماغ العليا المسؤولة عن القرار والتفكير تتعرض للارهاق. وهذا نراه عند نهاية يوم عمل طويل، القابلية والامكانية لاتخاذ قرار وجيه وسليم تخفت وتضعف.
لتقريب الصورة، لنأخذ التجربة التالية: تم دعوة مجموعة اشخاص لمشاهدة فلم حزين؛ أُخبر نصفهم بالتعبير عن مشاعرهم بشكل طبيعي بينما النصف الاخر أُخبروا بأن يكبتوا مشاعرهم.
بعد الفلم، تم اعطاهم جهاز ضغط يدوي فلاحظوا انّ اولئك الذي كبتوا مشاعرهم لم يستطيعوا الضغط على الجهاز بشكل قوي. لماذا؟ لأنّ طاقتهم تم استنفاذها في كبت المشاعر، فلم تعد عندهم الطاقة الكافية للفعل اللاحق.
24. فهم طبيعة الانسان عندما يتخذ قراراته وطبيعة انهياره امام ضغط المتعة اللحظية مفيد لنا على المستوى الاجتماعي والتنظيمي. لنأخذ المدمنين على المخدرات كمثال:
تقديرا فإنّ ثلث المجرمين تقريبا يكونون تحت أثر المخدرات اثناء قيامهم بجرائمهم. اليوم تقريبا نصف مليون امريكي يقبعون في السجون لأسباب متعلقة بالمخدرات. كثير من الدول تتعامل مع المدمنين بإدخالهم السجون. ولكن رغم ذلك نجد انّ كل الاجراءات ضد المجرمين لم تحد من مشاكل عالم المخدرات. في العادة قضاء فترة في السجون تزيد من مشكلاتهم على المستوى العصبي. السجن يُدخل المدمنين في دائرة مفرغة، ويجعلهم عرضة أكبر للسقوط مجددا في الادمان فور الخروج ومن ثم السجن مجددا. السجن في الحقيقة يقطع دوائر هولاء الاجتماعية وفرص التوظيف لديهم، الامر الذي يغذي الادمان أكثر فيهم.
البعض يعتقد انّ اكبر عامل للإدمان هو الفقر وضغط الاصدقاء. نعم هي عوامل ولكن هناك عامل كبير جدا، وهو: دماغ المدمن! فبدل صرف البلايين في الحرب ضد الادمان(تصرف الولايات المتحدة الامريكية ١٠٠ بليون في حربها على المخدرات كل سنة)يمكن التفكير في اليات جديدة تعالج المصدر الذي هو:الدماغ!
في تجربة على الفئران تم ملاحظة ميل الفئران لاخذ مواد مخدرة اكثر من ميلهم للاكل والشرب؛ الفئران لا تفعل ذلك لاسباب اقتصادية او اجتماعية بالتاكيد، وانما لأنّ المخدر يعزز دوائر عصبية على هيئة مكافئات سريعة، وبشكل فوري. يمكن ان تتداخل دوائر عصبية كثيرة، ولكن في دماغ المدمن، فإنّ دائرة الادمان هي المنتصرة دائما!! ولأنّ المشكلة عند المدمن تكمن في الدماغ، سيكون الحل كذلك في الدماغ.
25. تكملة لما سبق، فإنّ أحد اوجه العلاج هو محاولة خلق حافز بديل عن حافز المتعة اللحظية. مثلا: فرض فحص مرتين كل اسبوع على الشخص المدمن لنسبة المخدر في الجسم، مع سجن فوري في حال الفشل!
هنا لا نعتمد على وجود فكرة احتمالية السجن فقط في ذهن المدمن، وانما على عقوبة فورية بعد السقوط. لاحظوا في التسعينيات انّ انخفاض نسبة الجرائم في امريكا له علاقة بوجود عدد أكبر من رجال الشرطة في الشارع.
بالنسبة للدماغ، فإنّ رؤية عدد أكبر من الشرطة يحفز نشاط دماغي ناظر للعواقب. الاهم من ذلك كانت تجربة رصد لنشاط دماغ الشخص المدمن، وتعريفه هو بنشاط دماغه، والهدف كان تحسين قدرته على ضبط هذا النشاط. البعض دمّرت المخدرات حياتهم، وهم يعرفون ذلك، ولكنهم لا يستطيعون مقاومة اغراء اللحظة.
في تجربة لمدمنة مخدرات تم تصوير دماغها بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وتم تعيين مراكز الادمان في الدماغ التي تحفزت بمجرد عرض صور للمخدرات امامها. وبعد ذلك، طلب منها قمع هذه الرغبات عبر التفكير في العواقب الوخيمة للمخدرات، ولاحظوا وجود نشاط لمراكز اخرى من الدماغ.
هذه المراكز تتقاتل في كل مرة يعرض لها المخدر. مع تكرار التجربة بأفكار مختلفة لهذه المرأة، وملاحظة أي من تلك المراكز هي التي تتحفز بشكل أكبر، بدأت تدرك ما الذي يمكنها فعله على مستوى الذهن لكي تحفّز مراكز قمع الرغبة بدل من مراكز الادمان. ثم بتكرارها لهذه الامور التي تحفر مراكز القمع، فإنها تعزز الدوائر العصبية القائمة وتقويها، على امل تحويلها لمراكز قوية وثابتة ودائمة الانتصار. فهل يمكننا ان نبدأ التفكير في حلول لتلك الازمات الاجتماعية نابعة من هذا الفهم للعلوم العصبية؟
26. كثير من الدراسات والابحاث السابقة كانت حول الدماغ نفسه، بوصفه موجودا منفصلا عن الادمغة الاخرى. ولكن يجب أن لا ننسى، انّ هناك مقدار هائل من النشاط العصبي للدماغ مرتبط بكوننا كائنات اجتماعية متداخلة مع الاخرين بشكل دائم. نحن نراقب الاخرين، نتواصل معهم، نشعر بآلامهم، نحاكم نواياهم، نقرأ مشاعرهم؛ كل هذه المهارات الاجتماعية متجذرة بعمق في نشاطنا العصبي، وهذا المبحث للعلوم العصبية يطلق عليه: “العلوم العصبية الاجتماعية”
الدماغ مهيئ بشكل دائم للتفاعل الاجتماعي؛ ففي نهاية المطاف – ووفق لغة الدماغ – نجاتنا وبقائنا متعلق بمن هم احبابنا ومن هم اعداءنا. نحن نقيّم العالم اجتماعيا عبر قراءة نوايا الاخرين؛ وبالتالي فإنّ الدماغ ينتج أحكاما اخلاقية بشكل دائم.
في احدى التجارب على أطفال دون السنة الواحدة، قاموا بعمل عرض فنّي للدببة لهم. في هذا العرض، كان احد الدببة متساعدا بينما كان الاخر كان مؤذيا، وحين جاءوا بالدببة اليهم، تقريبا جميع الاطفال اختاروا اللعب مع الدب المتساعد.
رغم انّ هولاء الاطفال لا يتكلمون ولا يمشون، الا انّهم قادرين على اطلاق احاكم تقييمية تجاه الاخرين. وهذا يدلّ على أنّ كثير من الخصائص الاجتماعية موجودة فينا بشكل فطري.
27. ضمن قدراته الاجتماعية، يستطيع دماغنا رصد أدق التعابير في وجوه الاخرين، وبشكل سريع جدا واتوماتيكي، وبالتالي يحاول التنبؤ والتعرف على مشاعرهم. هذا الشيء تم اثباته في تجربة دُعي اليها مجموعة من الاشخاص. في التجربة تم عرض مجموعة من الصور لأشخاص بتعابير مختلفة عليهم. في الوقت ذاته، تم وضع اقطاب كهربائية على وجوه المشاركين، لرصد اي تغيير في عضلات وجوه هولاء المشاركين عند رؤية هذه الصور المختلفة.
لاحظوا أنّه عندما يتم عرض صورة لشخص مبتسم، فإنّ عضلات وجه المشترك تتحرك بشكل تلقائي ودقيق جدا لوضعية الابتسام كذلك. وهذه الظاهرة يطلق عليها (الانعكاس)؛ ايّ انّ تعابير وجه الشخص الاخر تنعكس على تعابيرك بشكل اوتوماتيكي حين تقوم برصدها؛ هذه الظاهرة هي التي تفسّر اكتساب الزوجين لتعابير وجوه بعضهم البعض مع الزمن وبعد العشرة الطويلة جدا، بل إنّ تجاعيد وجوههم تصبح متشابهة.
تم تطوير التجربة السابقة على مجموعة اخرى من المشاركين، ولكن هذه المرة بالاضافة الى الاقطاب الكهربائية، تم حقن وجوههم بحقن البوتكس لتقليل قدرتهم على اظهار التعابير.
الملفت انّه بمجرد عدم قدرتهم على إظهار التعابير في وجوهم (ممارسة ظاهرة الانعكاس) فإنهم قد واجهوا صعوبة بالغة في معرفة ماهية التعابير الموجودة في وجوه الأشخاص التي في الصور. احدى الفرضيات لتفسير هذه الظاهرة هي انّ غياب التفاعل من عضلات وجوهنا يعيق قابليتنا على معرفة مشاعر الاخرين.
28. هناك دوائر عصبية تنشط بشدة عند شعورنا بالألم، سواء كان هذا الألم جسدي أو نفسي، وسواء كان ألماً يمسنا نحن أو يمس الاخرين. نعم طبيعة الألم وشدته تحدد أي من الدوائر العصبية تنشط ومدى شدة هذا النشاط. أحد أهم مهيّجات الألم هو شعورنا بالعزلة الاجتماعية. فبدون تفاعل مع الاخرين، فإنّ الدماغ يعاني؛ ونجد أنّ كثيرا ممن يقضون في سجونا انفرادية لفترات طويلة جدا، يتعرضون لصدمات نفسية كبيرة.
في احدى التجارب لبحث أثر الشعور بالعزلة على الدماغ، جاءوا بمجموعة مشتركين وأشركوهم في لعبة جماعية على جهاز الحاسوب. في البداية تمّ اخبارهم انّ هناك اشخاص آخرين يشاركونهم اللعبة عبر الانترنت من وراء حواسيبهم؛ بينما هم في الحقيقة يلعبون مع الجهاز فقط.
ثم بعد فترة وجيزة، تم اخبارهم بأنّ هؤلاء الأشخاص الآخرين انسحبوا من اللعب، ولكنّ الجهاز سيبقى يلعب معهم بشكل أوتوماتيكي. بمجرد اخبارهم بانسحاب الاخرين (رغم انّ الجهاز يقوم بنفس الدور عمليا) فإنّ الدوائر العصبية المسؤولة عن الألم تهيّجت بشكل شديد.
29. عندما ننظر الى المجازر والمآسي الانسانية، كالذي فعلته النازية من قتل وحرق جماعي لليهود، أو ما فعله النظام اليوغسلافي في المسلمين، أو ما فعله الهوتو في التوتسي في رواندا.. فإنّ سؤالا مؤرقا ومرعبا يدهمنا! السؤال: ما الذي حصل في الانسان ليتحول لكائن متوحش يقتل الاخرين بلا رحمة؟ جيرانك ومواطنين بلدك، ما الذي يجعلك تشغل الة القتل فيهم بين ليلة وضحاها؟ كيف يمكن فهم هذه الظاهرة على المستوى العصبي؟
أول سؤال يعرضنا هنا: هل تشاعرك كانسان مع الاخر يختلف بحسب هوية هذا الاخر. ففي تجربة اجريت على مجموعة من الاشخاص لبيان هذا الفارق، تمّ عرض صور لست أيدي على الشاشة أمام أعين المشتركين، ثم قام الكمبيوتر بلمس اليد إما بقطنة أو ضربها بإبرة.
بعد ذلك تم اعطاء تصنيف لكل يد من هذه الايادي الستة. التصنيفات كانت كالتالي: -مسلم – مسيحي – يهودي – هندوسي – علموي – وملحد
بمجرد اضافة هذا التصنيف على اليد، لاحظ الباحثون انّ النشاط العصبي المرتبط بالشعور بالالم يضطرب اكثر حين تكون اليد المتضررة من الابرة من نفس انتماء الشخص، بمعنى ان تشاعر الانسان مع نوعه يفوق تشاعره مع المختلفين عنه.
30. لتقبل اي جريمة تجاه انسان اخر؛ فإنّ دماغنا يضطر للقيام بفعل يسبق الجريمة؛ وهو: تجريد الطرف الاخر من صفة الانسان، “وتشييئه”؛ لأنه حين يتعامل مع الانسان الاخر “كشيء”، تسهل بعد ذلك عملية قتله او تعذيبه. هناك منطقة في الدماغ تسمى medial prefrontal cortex (mPFC) وهذه المنطقة مسؤولة عن تفاعلنا الاجتماعي. لاحظ الباحثون انّ نشاط هذا الجزء من الدماغ ينخفض بشكل ملفت عندما ينظر الانسان الى شخص مشرد في الشارع، او شخص مدمن على المخدرات،
وبالتالي فإننا بشكل لاشعوري نتعامل مع هولاء على انهم في مرتبة أقل من إنسان، ولا نشعر بالاسى كثيرا لآلامهم او لعدم اعطائنا المال لهم. وهذه هي عملية تجريدهم من صفة الانسان. فهم هذه العملية هي المفتاح لفهم المجازر البشرية على المستوى العصبي.
فقبل أي مجزرة يتم بشكل مبرمج تجريد مجموعة كبيرة من الناس، عرق او طائفة أو دين، من صفة الانسان، ليسهل تقبل ارتكاب البشاعات فيهم! وإن السلاح الاكثر نجاعة في هذه العملية هي الدعاية propaganda. يُمارس السياسيين الدعاية بشكل مكثف لتيسير عملية تجريد الناس من الانسانية لتحقيق اجندتهم
31. في تجربة اجرتها معلمة في احدى المدارس الامريكية سنة ١٩٦٨ في اليوم الذي يلي اغتيال مارتر لوثر كنغ، بغرض تعريف طلبتها بأضرار العنصرية، قامت هذه المعلمة في اليوم الاول بتمييز الطلبة ذوي العيون الزرقاء. اعطتهم امتيازات اثناء الدراسة وأعطتهم درجات اضافية، اضافة لمنعها ذوي العيون البنية من الاختلاط واللعب معهم. سرعان ما لاحظت تضخم نزعة الشر عند ذوي العيون الزرقاء، ومحاولتهم تحريض المعلمة على زيادة القسوة على ذوي العيون البنية.
وفي اليوم التالي قلبت المعادلة، وفضلت ذوي العيون البنية على الزرقاء. قال احد ذوي العيون الزرقاء بعد سنين من هذه التجربة: حين قلبت معلمتنا التمييز، شعرت فجأة بأنّ العالم سُلب مني، وتهشم، كما لم يتهشم قط من قبل. ترشدنا هذه التجربة الى فكرة مهمة: عندما تقف في حذاء الطرف الاخر، فإنّ ذلك يفتح مدارك كثيرة في دماغك، ويعطيك الامكانية لاستشعار امور كثيرة غائبة عنك حول هذا الاخر وما قد يمر به من معاناة،
وربما تزيد حساسيتك تجاه مأساته، وتقل امكانية تحولك لوحش يؤذيه. التعليم مفيد ومهم جدا لمنع المجازر، وفهمنا لكيفية عمل دوائرنا العصبية مهم جدا في التعامل مع اولئك الذين هم في دائرتنا او في دوائر خارجية عنا.
32. للدماغ قدرة هائلة على التكيّف، في عملية يطلق عليها ب brain plasticity. يقوم الدماغ بشكل دائم باعادة ضبط وتحسين دوائره العصبية ليتكيف ويتأقلم مع المنبهات والمعطيات والمعلومات الجديدة الداخلة عليه. في عملية في العام ٢٠٠٧ تم ازالة ما يقارب نصف دماغ فتاة بسبب مرض خطير أصابها. الملفت انّ وظائفها وحياتها الذهنية لم تتأثر بشكل بالغ. لم يكن سبب ذلك أنّ النصف الذي تمت ازالته كان من بلا فائدة، ولكنّ السبب هو انّ النصف المتبقي تكيّف مع الوضع الجديد وسارع بالقيام بالوظائف المفقودة.
إنّ قوقعة جديدة يتم زراعتها في الاذن او شبكية جديدة في العين قادرتين على توصيل اشارات ومنبهات لخلايا الدماغ. السبب هو انَ الدماغ يتكيف بسرعة مع تبدل الاشارات الداخلة عليه ويستطيع التأقلم مع العضو الجديد.
التكيف على هذه الاجهزة الجديدة مثل الاعتياد على لغة جديدة. يتعلم الدماغ سريعا قراءتها والتجاوب معها. في البداية تكون الاشارات الجديدة القادمة غير مفهومة، ولكن سرعان ما يبني الدماغ انماطا جديدة ودوائر عصبية جديدة تستطيع فهم هذه الاشارات والتعاطي معها
33. لمرونة الدماغ مقدرة تتجاوز اعادة التكيّف مع المنبهات الجديدة، فهو قادر على التعاطي مع أي معلومات ترده من اي جهة كانت. الدماغ لا يدرك ولا يهتم من اين تصله البيانات؛ المهم انها تصل. وكأنما حين صُمّم الدماغ، تم ايداع نظام تشغيل محكم فيه يستطيع الاشتغال بأي مدخلات خارجية ترده. فكل المدخلات هي في النهاية اشارات كهربائية. وكمثال بارز على هذه المقدرة ما يسمى ب sensory substitution، وهو ادخال بيانات حسية للدماغ عبر مدخل حسّي مغاير لمدخلها الاصلي، كإدخال بينات حسية “بصرية” عبر “التذوق”؛
وتوجد تجارب اثبتت ذلك، ففي تجربة على مجموعة من العميان، كان يتم الضغط على ظهورهم بأشكال مختلفة كلما ظهر شكل معين على الشاشة التي امامهم؛ فكانوا يدركون “بصريا” المنبه الحسي الذي يلامس ظهورهم.
وفي تجربة اخرى كانت تتحول الاشارة الكهربائية من الشاشة الى جهاز موضوع على اللسان فيستطيع الاعمى -من خلال هذه الاشارة “الذوقية”- تشكيل صورة بصرية في دماغه بل ويتصرف بمقتضاها. أحدهم تجاوب معها برمي كرة داخل السلة. واحدهم بجهاز مشابه على اللسان استطاع تسلق الصخور. هؤلاء الاشخاص كانوا “يبصرون” بألسنتهم. وهذا يؤكد انّ الدماغ لا يعتني كثيرا ب “من اين تدخل المعلومات” طالما انها تدخل وهو يستطيع التعامل معها.