لو سألنا أنفسنا الأسئلة الوجودية التالية: ماذا يريد الله من الانسان؟ كيف يستدل الانسان على وجود الله وعلى صفاته؟ كيف يكشف الله سبحانه نفسه لعباده؟ ما هو هدف الرسالات السماوية؟
سنجد أنّ الاجابات تتركز أو ترتبط بمبادئ رئيسية، هذه الاجابات تتضمن أنّ الله إله حكيم، يريد هداية الانسان، وأنه يخاطب روحه وعقله، ويكشف نفسه لعباده عبر أسمائه وصفاته، وأنّ الطريق الذي ارتضاه سبحانه لهداية الانسان هو طريق الروح، والقلب، والعقل، والحكمة.
فأين إذن تقع المعجزة، بوصفها دليلا على الايمان كما يدعون دائما، في هذه المنظومة؟
يركز القرآن في امتداد سوره، وبكم ضخم جدا من آياته الشريفة (مواضيع قرآنية قليلة تلك التي يحرص القرآن على تكريسها بهذا العدد الضخم من الآيات)، أنّ طلب الخوارق والمعاجز الحسية للاستدلال على الايمان هو طلب خاطئ. بل تشدد الآيات في مواضع عديدة، أنّ أمثال هذه الطلبات تستبطن كبرا وعلوا في النفس.
فالله تعالى، هو من يقرر كيف يُثبت صدق رسالاته، وهو من يقرر كيف يستدل على أحقية أنبيائه. وقد أخبرنا القرآن عن هذه الكيفية التي بها يتم الاستدلال على صدق الأنبياء، وهي عبر تبليغهم الناس منظومة القيم، والتعاليم والارشادات، وعبر صدق النبي (المدعي) ونزاهته ومعرفة قومه لأخلاقياته، وكذلك عبر الثمار المعرفية والروحية والأخلاقية الناتجة عن تصديق الوحي والالتزام بتعاليمه، وكذلك لإتيانه لمعارف متفوقة على المعارف المألوفة في سياقات نزول الوحي الزمانية والمكانية، أو لغة متعالية على لغة البشر، وكذلك عبر تحقق نبوءاته. كل ذلك يعني أنّ طريقة الاثبات هي الوحي. فقط الوحي (أي: كلام)، وليس عبر الخوارق الموضوعية التي تعمل لإثارة الذهول والروعة عند المتلقي والمستقبل. فمن يريد الوحي، ينبغي عليه الاستجابة وتكييف نفسه على طريقة الله هذه.
وأما الاشتراط على الله، وفرض طرقنا ومفاهيمنا على أنبيائه وعلى وحيه، عبر البحث عن خوارق حسية، لكي نثبت صدق المدعي، فهذا ما حرص الكتاب العزيز على إدانته كثيرا.
لقد جاء الانبياء بنبوءات مستقبلية، وعلوم غيبية، ومنظومات أخلاقية وقيمية، أنذروا بها أقوامهم، ثمّ ترك الله تصديق الاقوام لهذه النبوءات حرية شخصية لدى كل متلقي. فالمتلقي، بعد سماعه لمضمون الوحي، يتوجب عليه إجراء تقييمه الكامل: هل هذه التعليمات والارشادات والقيم والمبادئ والعلوم هي أمور جديرة بتصديق نسبتها لله تعالى، وهل صاحب هذه الدعوى (النبي)، هو كذلك جدير بالتصديق؟ عليه أن يسأل: هل يجدر بي التصديق؟ ومن ثمّ تفعيل هذا التصديق عبر الالتزام بمقتضيات هذه الدعوى والالتزام بالخيارات المصيرية والوجودية الناتجة عنها؟
ولكن، ما هي الاليات التي يمارس بها الانسان عملية التقييم؟ للإجابة على ذلك نعود للأسئلة الكبرى التي ذكرتها في البداية.
يجري الانسان تقييمه بالعودة للثوابت الاولى، أو لنسميها أوليات الايمان وأساسياته، تلك التي تسبق أصلا دعوة النبي ووجوده. ما هي الثوابت الأولى؟ هي بسيطة جدا بقدر ما هي جوهرية ومصيرية وضخمة، بسيطة لكونها مودعة في النظام الفطري للإنسان، فهي أشبهه بالبوصلة الدقيقة المودعة في قلب الانسان، يستطيع من خلالها الاهتداء لربه وللقيم الإنسانية.
هذه الثوابت تتضمن: الله هو إله حكيم وعاقل، وهو إله خيّر، يريد هداية الانسان، ويسعى لرفعته ورقيه الانساني والروحاني والعقلي والمعرفي، وأنّه سبحانه لن يناقض هذه المبادئ عبر العمل على إثارة الذهول عنده أو جانب الروعة فيه أو إثارة غرائزه، من خلال نقضه لنواميس الكون وقوانينه، لكي يثبت له حسيا أنّه موجود أو أنّ أنبياءه صادقين، وبالتالي ينفي بشكل تلقائي أصالة وأولوية العقل والروح في هذه المنظومة الربانية.
عبر هذه الثوابت وهذه القضايا المحكمة، يتساءل الانسان المتلقي: هل ذلك متوفر في هذا الادعاء؟ وهو هي قضايا متضمنة في هذا الوحي؟ وهل الوحي منسجم ومتناسق في عناصره الداخلية، وخالي من التناقضات؟ وهل هو متسق مع الروح ومنظومة القيم في مبانيها وأدلتها؟ وهل كل ذلك مقترن بإنسان صادق ونزيه ومنضبط بمعايير الحياة الأخلاقية؟ فإن كان الامر كذلك، فتلك دلائل صدقه، وهذه الطريقة منسجمة مع المنظومة المحكمة التي رسمها الله لعباده.
وذلك يجرنا لنسأل: ما الفائدة من إيمان الدهشة والروعة؟ ذلك الذي لا يستطيع الانسان معه تقييم صدق دعوة الأنبياء الا بعد أن يرى الخوارق الحسية أو يرى نقض لنواميس الكون الفيزيائية؟ وهل يمكن أن يُسمّى إيمانا ذلك الذي يعاني صاحبه من الفزع والقلق حين يشعر أنّ إيمانه لم يعد مرتبطا بتلك الخوارق والمعاجز؟
إنّ تلك الخوارق تخاطب الدماغ البدائي في الانسان، وتحرّك غريزته، وتسعى لإثارة الدهشة فيه، وتقوّي في نظام عقله “صنم الروعة”، وكلها قضايا ليست مرتبطة بالله ولا بمنظومة القيم، ولا بوعي الانسان الروحاني. لذلك فإنّ التعويل عليها وأشباهها، وربط الايمان بها، هو بمثابة انتكاسة في منظومة الايمان كله، والله تعالى يريد دفع الانسان للأعلى، لا نكوصه وتقهقره للدنى.
إنّ تصوراتنا الخاطئة عن الله تعالى، وعن هدف الرسالات، والتشوّه الذي أصاب مفهومنا للإيمان بوصفه قضية الانسان الجوهرية والوجودية، هو الذي أدّى إلى تلك الأفهام السقيمة للرسالات السماوية، وعن أنبياء الله عليهم السلام. لذلك نحن بحاجة إلى وقفة جادة لتصحيح هذه التصورات الخاطئة، وقضية المعاجز والخوارق تشكّل حجرا أساسيا في هذه المسألة.
المشكلة أننا بإلغاء تلك المحكمات الكبرى التي ذكرناها، بوصفها أساس وعماد “الايمان” في حياتنا الروحية، فإنّ اختطاف الايمان حينها يصبح سهلا، عبر زرع لوثات وفيروسات، كلوثة عقيدة الخوارق، التي تقوم على إثارة الروعة والدهشة، وبالتي تسطو على المساحات العقلانية والروحية في كيان الفرد المؤمن. وعموما، فإنّ الإيمان في صورته البدائية القائمة على الخوارق الحسية، هشّ وضعيف ولا يمكن التعويل عليه، بل هو عرضة للانهيار عند أول اختبار حقيقي.
لذلك فإنّ إنقاذ الايمان من هذا التقهقر لا يتم الا عبر تنقية المفاهيم الأساسية والأوليّة له، بإعادة طرح الاسئلة الكبرى: ماذا يريد الله من الانسان؟ كيف يكشف الله تعالى نفسه لعباده؟ وكيف يريد للانسان أن يبني ايمانه؟ وكيف ينبغي للمؤمن الاستدلال على صدق رسالاته؟
ثم تأتي الخطوة الثانية، عبر إعادة النظر في القرآن، واعادة فحص الآيات المحكمة بالمنظار الجديد – بعد ازالة التشوّه من الايمان، الناتج عن أمثال عقيدة الخوارق – وأقصد بالآيات المحكمة تلك التي تضع لنا قواعد الايمان والتصديق والتعقّل، وتبيّن لنا من هو الله، وما هي صفاته، ومنظومة القيم الخ، فإنّه سيتضح للمرء وبشكل لا يقبل الشك، أنّ طريق الايمان الحقيقي هو واحد فقط.
بعد تشييد القواعد العقلية/الفطرية في الخطوة الأولى، ثم تعزيزها بالآيات المحكمات القرآنية، يمكننا حينها أن ندخل على آيات القصص المتشابهات، تلك التي جعلتها التفاسير أمثلة ونماذج على عقيدة الخوارق، لإعادة فحصها وقراءتها بناء على تلك القواعد والمحكمات، وستكون النتيجة مغايرة حتما.
وكلا النوعان من الآيات كثير في القرآن، وأقصد بالنوعين، أي الايات المحكمة التي تثبت عدم صحة منهج الاعتماد على المعاجز في البرهنة على صدق الدعوات والأنبياء (ع)، وكذلك الآيات المتشابهة التي تم تفسيرها بناء على عقيدة الخوارق، وأقصد بشكل رئيسي آيات القصص وما يسمى بالمعاجز. وسأعرض في بقية هذه المقالة بعض النماذج على النوع الأول من الآيات.
يقول الله تعالى في سورة هود “فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل” (هود 12). لاحظ هنا أنّ النبي (ص) لديه الوحي (كلام) والقوم من أمامه يطالبونه ب: كنز / مجيء ملك معه. فهم إذن غير مكتفين بالوحي، ولكنهم يريدون تعزيزات وشواهد حسية، فمشكلة الوحي – من منظورهم – أنه كلام فقط، وهم يريدون ويطلبون أموراً حسية معززة معه؛ القران يشير هنا أنه معاناة النبي (ص) معهم حتى لقد يكاد صدره يضيق، فهو يريد لهم الهداية، ولكنه يعرف انهم لن يهتدوا فقط “بالكلام“. هم يريدون (إثارة) و(روعة). لكن القرآن ليس: (ما يطلبه المشاهدون).
ثم في الآية 31 من نفس السورة، “ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذي تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خير الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين”. وهذا القول على لسان نوح عليه السلام، وهو له نفس المؤدى، أيّ ليس لدي تلك الأمور الحسية التي تطلبونها، لا آتيكم بخزائن ولا ملائكة أو ما شابه. وردّ قومه عليه يعزز هذه الصورة، حين قالوا له في الآية التي تليها: “قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا”. بالنسبة لهم الوحي مجرد كلام للسجال والجدال، ممل ولا طائل له، وليس له قدرة على حسم المسألة، بينما المعجزات الحسية تستطيع فعل ذلك بمنطقهم.
والملفت أنّ ابن كثير علّق على هذه الآية بما يكشف حجم تمكّن عقيدة الخوارق من تفسيراتنا للقرآن، فقال: “ويخبرهم أنه ليس بملك من الملائكة، بل بشر مرسل، مؤيد بالمعجزات”. وهذا عجيب، فأين في الآية يخبرهم أنّه مؤيد بالمعجزات؟ ولكنّها العقيدة المتجذرة التي صارت تجري في الكلام جريان المسلمات.
ثم في الآية 53 من سورة هود: “قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين“ فاحتجاج قوم هود (ع) يكشف الخلل ذاته، فهم يريدون بيّنة على مقاسهم، يريدون أمرًا حسيا مشاهدا؛ بينما هود ع يأتيهم بوحي أي كلام فقط ونبوءات وبشارات وإنذارات؛ وهم مطالبين بالإيمان بناء على بيان الوحي فقط، وليس على ظواهر حسية واعجازية.
في بدايات سورة الفرقان (الآية 7-9) يقول الله تعالى: “وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُورًا، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا”
والخلل النفسي والعقائدي الذي تكشفه آيات الفرقان في هؤلاء القوم واضح، فهم يطلبون ملائكة، وإذا قبلوا بالبشر “تنزّلا” فهم يريدون بشر بمواصفات خارقة، فليكن مثلا معه كنز أو جنة. أمّا أن يكون رجلا عاديا يكلمهم بكلام ربهم، وينذرهم به، فهذا غير مقبول. والسورة الكريمة في الآية 21 تكشف حقيقة المرض الذي تنشأ عنه أمثال هذه المطالبات: “وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا”
ثم تكمل سورة الفرقان، هذه السورة الجميلة والمخيفة، والمعبّرة عن نفسية الانسان في مختلف الأزمنة، “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا” يكثرون من شروطهم على الوحي، والوحي ليس “ما يطلبه المشاهدون” وعلى الانسان أن يتأدب، ويكيّف ذهنه على طريقة الله، وليس العكس. ويخبرهم السورة نفسها (الآية 50) أنّ في هذا الوحي كل ما يحتاجونه للإيمان، ولكنهم يأبون ذلك: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا”.
وأختم بهذا البيان الربّاني البيّن في سورة العنكبوت: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”