ما هو البديل عن التقليد؟

لقد ناقشت حلقات جمعية التجديد في برنامجها أغلال العقل، كل أدلة التقليد، القرآنية، والروائية، والعقلية، وبيّنت أنّ التقليد في شكله الحالي عقيدة مستحدثة لا أصل لها، ولكنّ الجمعية قدّمت في أواخر مناقشتها لمبحث التقليد، بديلا عن التقليد، فما هو البديل عن التقليد؟

إنّ تقسيم مدرسة التقليد عمل المكلّف وحصره في هذه الأقسام الثلاثة (المجتهد، المحتاط، العامي) هو عمدة صرحها الكبير. فهل من طريق خارج هذا الطريق المسدود؟
بمعنى هل من بديل للمكلّف خارج هذه الاقسام الثلاثة:
1- مجتهدا متخصصا يذهب عمره في دراسة العلوم الدينية ليستطيع استنباط الأحكام بنفسه
2- مقلدا إمعة مهما توغل في العلوم لا يصل لمرتبة الاجتهاد
3- محتاطا مبتلى بوسواس يرهقه ويحيل حياته عنتا وتكلفنا وعسر

إنّ مفتاح الخلاص من هذا الطريق المسدود، هو في هذه الآية الحكيمة والمحكمة التي تفتح ثغرة على البديل القرآني للتقليد: “والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين {يستمعون القول فيتبعون أحسنه} أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”
من أصدق من الله تعالى؟ الله تعالى يقول إننا قادرون على الاستماع للأقوال ومقارنتها، واختيار الأسلم والأفضل منها. فكيف جعلنا إذن الطريق الى معرفة الصواب يكون عبر الارتهان لرأي رجل واحد ليس معصوما، ويصيب ويخطأ، ثم جعلنا {تقليدنا} له مبرئا للذمة؟! فما الحل؟

الحل هو في أن نكون أحرارا اولا، ثم نثق في قدرتنا على التقييم والمقارنة بين الآراء لكي نتبع أحسن القول ثانيا؛ فإذا أحرزنا مع أنفسنا هذه المقدمات، فمن الممكن حينها أن نقوم بالتالي:
إذا استعصى علينا أمراً أو جهلنا حكما ما، يمكننا حينها – ببداهة القاعدة العقلائية التي تقتضي رجوع الجاهل للعالم – أن نرجع لنسأل شخصا أعلم منا به، ولكن ليس رجوع ارتهان كلي أو تقليد شامل مقرونا بظن إبراء الذمة أو بخوف من بطلان، بل رجوعا لنسأله ببساطة حول تلك المسألة بعينها أو أحيانا للاستئناس برأيه فيها، ثم بعد ذلك نكون أحرارا في تقييم رأيه، ووزن كلامه، ومقارنته بالآراء الأخرى، ثم الأخذ به أو حتى تركه اذا وجدناه مخالفا لصريح العقل والفطرة، أو إذا وقفنا على دليل.
كما لا يلزمنا رجوعنا له في تلك المسألة، أن نجعله مرجعا دائما لنا في كل شيء، فقد نرجع لغيره في مسائل وقضايا أخرى إذا كان هذا الآخر أبرع وأعلم منه في تلك المسائل.
بل لسنا ملزمين حتى بالرجوع في كل المسائل لأشخاص محددين قد أحرزوا كافة الشروط المحددة للمجتهد والتي بتحقيقها يكون مرجع تقليد. فيمكننا مثلا الرجوع في بعض المسائل لأشخاص لم يحرزوا كل تلك الشروط، ولكنهم بارعون في مجالات معينة، للأخذ برأيهم فيها.
كما أنه ليس خطئاً أن يترقى المكلِّف بنفسه ويباشر البحث في (بعض) المسائل بحسب قدرته، ويسعى للوصول الى استنتاجات خاصة به، قائمة على {دليل وبحث}، حتى إن يكن محرزا لكافة شروط الاجتهاد.

ومعنى كل ما سبق، أنّ هذا البديل يمنح المكلَّف مساحة هائلة من المرونة والحرية، والتقييم، والتنقّل في الاراء (شرط إبعاد الهوى والرأي والغرض)، ولا يلزمه بكل تعقيدات عقيدة التقليد وشروطها، تلك التي تنتج الإمعة وتكرّس الاتكالية.
اذن، نحتاج أولا أن نُسقط منظومة الزيف، بإسقاط دعاماتها، مثل كذبة (فإنهم حجتي عليكم) وأشباهها من مرويات وعقائد الوصاية والهيمنة والطغيان، والتحرر من مفاعليها وتفريعاتها.

ونحتاج ثانيا الى التحرر من عقيدة التقليد بصيغتها الحالية، أي من الثلاثية المغلوطة {مجتهد مقلّد، محتاط}، ومن {وجوب} التقليد، ومن فكرة {إبطال} العمل من دونه، و{إلزام} المكلَّف بفتاوى فقيه واحد.

ثم نحتاج ثالثا إلى منح المكلَّف مرونة وحرية، فيكون مرتبطا بالدين لا رجاله، وفق قواعد الدين الكلية (مثلا: لا إكراه في الدين) فيستطيع التخيّر بين الآراء في المسائل التي لا يستطيع البت فيها، ومقارنتها ببعضها وتعريضها للمحاكمة المنطقية والفطرية والعقلية، ومن ثم عدم إلزامه بتقليد شخص واحد طوال عمره، ولا بآلية وطريقة محددة في كل المسائل، ولا تقييده ومنعه عن القيام ببحثه واستنتاجاته إن أمكنه ذلك، دون إلزامه بإحراز كافة شروط الاجتهاد المعمول بها في الحوزات الدينية.
بل ربما يكون مفيدا لو كان ثمّة مؤسسة على سبيل الفرض، تخرج لنا الآراء في بعض القضايا الكبرى كأجوبة {احتمالية} لمسائلها، من دون أسماء رجالها (فقهائها)، وتعرضهم ضمن قاعدة معلومات، وتتيحها لجمهور الناس كمعلومات مشاعة، وكل “مكلّف” متى استعصى عليه شيء، يمكن أن يختار لنفسه من هذه الآراء الاجتهادية في المسألة ذات الشأن.
 
الخلاصة والقاعدة الاهم، هو تحرير الناس من كونهم مقلّدين لا حول لهم ولا قوة، وعدم تطويقهم بشروط وقيود وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ثم رهن براءة ذممهم بها. كل ذلك لفتح الآفاق لبديل حقيقي للتقليد، أكثر رحابة وسعة، وأقرب للعقل ولقيم الدين الكبرى.

 

Scroll to Top