تحدث الأستاذ الفاضل جلال القصّاب قبل عام تقريبا حول قصة البقرة في سورة البقرة في برنامج “للتي هي أقوم” لجمعية التجديد. وانهالت بعد ذلك الاساءات والتهم، فقالوا: أنّ جمعية التجديد تقول أنّ المرأة بقرة!
ولكن ما الذي قالته الجمعية فعلا؟ الخلاصة من الرأي: لم تقل التجديد أنّ البقرة هي مرأة، بل البقرة هي بقرة ظاهرا، ولكن القصة تتضمن في مطوياتها الإشارة إلى امرأة كانت هي السبب في جريمة قتل حصلت في بني إسرائيل، فكان موضوع البقرة حلا لتلك الجريمة. وعموما فلن أستعرض هنا رأي الجمعية كاملاً في تفسير هذه الآيات، فذلك موضوع مختلف مفصّل في الحلقات، وإنما سأكتفي هنا بإزالة هذا اللبس فقط، وسيكون على شكل نقاط.
1- قصة البقرة، هي قصة مركزية في السورة، بل هي التي أخذت السورة اسمها منها، وسورة البقرة تبيّن لنا أنّ الأمّة الرسالية التي تتخلّى عن مسئوليتها وتريد من الربّ أن يحل قضاياها ومشاكلها ويقاتل عنها وتتلكأ في تنفيذ أوامره لا تصلح لتكون أمة رياديّة حاملةً رسالته وهادية للناس.
2- لقد حصلت جريمة قتل في بني إسرائيل زمن موسى ع، سببها امرأة، والجاني والمجني عليه أبناء عم.
3- كفّارة الجريمة كان ذبح بقرة. ولكن القرآن شفّر في مطويات القصة (حيث ساحة الرمز) سبب ودافع الجريمة. ونحن لكي نفهم ذلك، علينا أن نفهم لماذا “بقرة”، ولماذا ظلّت كلمة “بقرة” تتكرّر لفظا (إنها بقرة) (إنها بقرة) (إنها بقرة)، لتوقظ وتوقد العقل أن يقف ليُفتّش وراءها، فلنكمل إذن مشوارنا مع القصة ورمزياتها المطويّة. والتعقّل غاية في القصة حيث ختمها ب (لعلكم تعقلون).
4- هناك ثلاث كلمات تبدو للوهلة الأولى أنها زائدة، ولكنها جوهرية وقد أضيفت بدقة لغرض وحكمة، حيث كل حرف في القرآن آية، ولو أنّك حذفت هذه الكلمات الثلاث (افتراضا) لاكتشفت شيئا. إنها كلمة “بقرة”.
5- وعند حذفها (افتراضا فقط لأنّ وجودها في الآية ضروري وهو لغاية كما بيّنا) سترى حينها المواصفات، صفراء زاهية وذات منظر خلّاب (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)، وهذه مواصفات ترشد بني إسرائيل إلى مواصفات تلك المرأة، التي بسببها صارت جريمة القتل، لذلك فالمواصفات هي مفتاح لمعرفة الجاني. فالبقرة ليست امرأة، وإنما في باطن أوصاف تلك البقرة، يوجد توجيه ربّاني لمعرفة مواصفات المرأة المرتبطة بالجريمة، والتي جاءت تلك القصة لمعالجتها.
6- فما هو سرّ الترميز هذا؟ هنا شرح الأستاذ جلال الترميز للرجل والمرأة، بالثور والبقرة، منذ أساطير القدماء، وعلاقة ذلك بنظام المجتمع الامومي (نظام عشتار)، نظام الطبيعة والخصب، والملاحم القديمة كملحمة جلجامش الذي يعني أصلا (الثور العظيم) والذي قال (ولدتك أمك ننسون البقرة). والبقرة مصدر الوفرة والخير الوفير ورمز السنة الخصيبة كما في رؤيا الملك في قصة يوسف(ع)، وغيرها. فالبقرة ليس تفسيرها امرأة، وانما هي لغة رمزية تكدّس معاني مطوية بين السطور لغايات حكيمة أرادها الحق سبحانه، لقوم لعلهم (يعقلون).
7- فالظاهر عليهم أن يذبحوا بقرة (وهي كفّارة إثم في شريعتهم)، والباطن عليهم التنقيب عن المرأة لكشف القاتل. ولأنّ بين (الجاهلين- آية 67) (وتعقلون-آية 73) مسافة، هي مسافة التلكّؤ والمماطلة نفسها، ولأنهم طلبوا من موسى ع معرفة القاتل بسؤال ربه، لا بجهدهم وبحثهم، كان يمكن لله سبحانه ببساطة أن يخبرهم بالغيب، فيوحي إلى نبيّه اسم القاتل وتنتهي المسألة، لكنّ الله يُعين الذين يُعينون أنفسهم، فجلّت حكمتُه لا يفعل كما اشتهوا، الله ليس رهين جهلنا وأمانينا، بل يريدهم أن يعقلوا، فأعاد وضعهم في مهمّة البحث والتحرّي التي هربوا منها للوصول إلى اسم القاتل، فإن لم يعقلوا ليتحرّوا عن امرأة، فليجهلوا ويتحرّوا إذاً عن بقرة!
8- ما علاقة ذلك بالرسول (ص) وزمن الرسالة؟ هناك حادثة قتل جرت أيام موسى، وهناك حادثة قتل أخرى جرت الآن وقت نزول سورة البقرة كانت هي المناسبة لاستحضار القصة القديمة وتذكير يهود المدينة بها. وهذه القصة التي رواها ابن هشام وغيره، في مقتل أحد الأنصار في سوق صاغة بني قنيقاع في المدينة المنورة، حيث دافع رحمه الله عن امرأة مسلمة تحرّش بها أحد اليهود المستهترين فقام الانصاري له فقتله. فكما تقاتل أبناء عمومة زمن موسى ع من اجل امرأة، فأيضا هنا يهودي يقتل مسلما (ابن عمه سلاليا) بسبب امرأة. وحيث أنّ سورة البقرة هي سورة معنية باليهود كما بيّنا في غير موضع، فقد نزلت قصة البقرة لتُحيل هذه الفئة اليهودية المعاصرة للرسول (ص) إلى أسلافهم القدامى ليعتبروا. وليروا التواصل الإلهي وكشف الغيوب، علّ الموتى (موتى الضمير) ينطقون بالجريمة، وهو سبب تذييل القصة بعبارة بعبارة “كذلك يحيى الله الموتى”
9- الخلاصة: أنّ هناك مسار الوعي واليُسر (تعقلون)، ومسار قسوة القلب والعنت (الجاهلين)، انفتح المساران بأمر الله لهم بأن يذبحوا بقرة، البقرة تشير إلى وجهتين؛ فهي ترمز لأنثى كجنس، وهي تعني الحيوان كصنف، فظاهرها أن يذبحوا بقرة أو ثوراً، يكون ثور خطية حسب شريعتهم يكون براءة لهم من دم القتيل، وباطنها لينقّبوا عن أنثى ذات علاقة ماسّة بالقتيل، فهي دافع قتله.
فهل هذا الشرح، يساوي ما يقولونه دائما من أنّ جمعية التجديد قالت أنّ البقرة هي امرأة!