في رواية الاخوة كارامازوف لدوستويفسكي دار حوارٌ فلسفيٌّ بين الاخوة إيفان وأليوشا كارامازوف، وفيه سرد إيفان على أخيه أحداث قصة افتراضية تدور في إشبيلية في القرن السادس عشر، حيث يباشر في القصة المفتش الكبير بإعدام أعداء المسيح والكنيسة بشكل ليلي ضمن محاكم التفتيش، وتهلل مع أصوات حرق المحكوم عليهم أصوات الجماهير وصلواتهم: “في نيران رائعة، كان يحرق الزنادقة الاشرار“.
في ليلة من الليالي، يظهر المسيح وسط الشعب، فيعرفه الناس على الفور، ويحتشدون حوله، ويهللون له، ويحتفون به. ولكن في تلك اللحظة عينها، ظهر الكاردينال (المفتش الأكبر) – هذا الشيخ التسعيني طويل القامة، صاحب العينين الغائرتين–، ولكن هذه المرة ليس بثوبه الفخم المعروف، ولكن بلباس الراهب، المصنوع من الصوف. وكانت في عينيه شعلة تسطع. وبطبيعة الحال، استطاع المفتش الأكبر تمييز المسيح من فوره، ولم ينتابه الشك قط في انه هو المسيح، فاكفهر وجهه وقطّب حاجبيه، واشتعل بريق غاضب في عينيه.
فإذا به، هذا المفتش الذي للتو قد احرق مئة “زنذيق” ليلة الامس في الدفاع عن المسيح والمسيحية، يأمر الحرس باعتقال المسيح. وفعلًا، اخترق الحرس صفوف الجماهير، واقتادوا المسيح الى السجن.
سٌحب السجين إلى مبنى السجن القديم، حيث هناك أيضا تقع المحكمة المقدسة ويُحاكم الناس على ضلالهم وفساد معتقداتهم. مرت عليه ليالي حالكة في زنزانته الضيقة والخانقة. وفي احدى الليالي المظلمة والحارة، فُتح باب الزنزانة، ودخل الشيخ الكبير (المفتش) وبيده مصباح يكفي لإنارة مساحة بسيطة كافية للكشف عن وجوه المتقابلين. هناك في تلك الليلة المظلمة، تم اللقاء بين الكاهن الأعظم (المفتش الأكبر) وبين المسيح.
أول ما قاله الكاهن – بعينين فيهما شرر- للمسيح: “أهذا انت إذن؟ أهذا أنت!” لم يجبه المسيح! ثم قال المفتش: “اسكت، لا تقل شيئًا! وما عساك تقول! وبأي حق تريد ان تضيف أي شيء إلى ما سبق أن قلته! لماذا تأتي اليوم وتزرع الاضطراب في حياتنا! إنما جئت لتعرقل عملنا. وأنت لا تجهل ذلك“ ثم أكمل المفتش الأكبر كلامه للمسيح: “ولكن هل تعلم ما الذي سيحدث غدا؟ إنني سأحكم عليك بالإعدام وسآمر بإحراقك كما أحرق أسوأ الزنادقة. إنّ ذلك الجمهور نفسه الذي كان يقبّل قدميك منذ بضعة أيام، سيهرع غدا باشارة واحدة مني، ليرى لهيب النار“.
كان أليوشا وهو يستمع إلى سرد أخيه إيفان يتساءل إن كانت القصة واقعية، أم هو خيال جامح يعيشه الرجل العجوز بحيث يتوهم أنّ السجين هو المسيح فعلا، وهنا أجابه إيفان بجواب مهم، قال له: “ولكن، أيفرق معنا الأمر إن كان خطأ في الهوية أم خيالا جامحا؟ فإنَّ أهم ما في الموضوع هو أن الرجل العجوز ينبغي أن يعبِّر علنا، ويتكلَّم بصراحة، عما كان يضمر في تفكيره لمدة تسعين عاما.“
ثم يمضي يسرد بقية الحوار الدائر بين المفتش الأكبر وبين المسيح عليه السلام، ولكن ما أوردته فيه الشاهد من هذه القصة، وهو الكشف عن حقيقة ما يجول في دواخل الكاهن الأعظم، وكل كهنوت في كل زمان ومكان.
الأفكار الجديدة، دائما تبدأ كثورة معرفية واجتماعية، ولكنها بعد مدة، وبعد أن تلقى قبولا وأتباعا، تتحول الى مؤسسة؛ ولكن الخطر دائما يكون في تحول المؤسسة الى كهنوت، والكهنوت يعيد المجتمع لمرحلة ما قبل الثورة المعرفية، ولكن في الشكل الجديد والقالب الجديد.
كان موسى عليه السلام ثائرا، مصلحا، ولكن سرعان ما تقهقرت أمته بعد رحيله، وبعد ذلك بسنين، تم وضع أفكار موسى في قالب كهنوتي، بصيغة مشوّهة، وأصبح هذا الكهنوت يحارب افكار موسى ع، باسم موسى ع.