هل المباحث الدينية للمتخصصين فقط؟

هل ينبغي أن تُترك المباحث العقائدية والقرآنية والدينية التي يناقشها أفراد أو مؤسسات في الفضاء العام، لتُبحث {فقط} في داخل أروقة الحوزات والمعاهد الدينية، وتكون المناقشات حكرا على من يسمونهم بالمتخصصين أو أهل {الاختصاص}؟
الجواب اختصارا: قطعا لا.
وفي هذه المقالة ست نقاط مختصرة في بيان بعض الأسباب:
أولا: هذا القول هو ذات القول الذي قيل لكل من حاول الإصلاح والتجديد في الخطاب الديني، ومثال ذلك ما قالوه للسيد كمال الحيدري. قالوا له: لماذا لا تجعل نقاشاتك محصورة في داخل أروقة الحوزة، وبين المتخصصين، حتى لا تثير فتنة بين (العوام) أو لغطا لدى الناس؟ قالوا له: اطرح ما تشاء من “شبهات” ولكن عند أهل الاختصاص من السادة كبراء الحوزة، ولكن لا تثيرها عند الذين لا يستطيعون الرد عليها؟!  
المشكلة أنّ العالم اليوم لا يسمح بمثل هذا المنطق، فالمعرفة متاحة للجميع، والوصول لها متيسر في دقائق، والإشكالات والأسئلة مطروحة في كل مكان، وليس صحيحا لمن أراد أن يواكب التطور، أن يدس رأسه في التراب أو يغمض عينيه، وينفي وجود كل تلك الأسئلة وكل تلك المشاكل الثقافية، ويتعامل مع كل طرح جديد على أنه إثارة شبهات ينبغي مناقشته في الاروقة الداخلية للمعاهد الدينية، حتى لا يتزلزل إيمان الناس، ولا “تُسرق” منه الاجيال!
انتهى هذا الزمن، وعلينا التكيّف مع هذه الحقيقة، وإلا فسينسانا التاريخ. بل الذي يظهر من أمثال هذا المنطق الوصائي، هو وجود إرادة خلفه تريد أن تمنع أي نوع من أنواع التداول للمعارفة الدينية بشكل تشكيكي أو جاد، حتى لا ينفلت زمام الامر من أيدي الذين يصيغون الوعي الديني للناس.
ثانيا: الخطباء وأصحاب المنابر يصدحون ليلا ونهارا، بالروايات والعقائد والمفاهيم، حتى الاجتهادي منها والظني، بل في الكثير من الأحيان يتحدثون بالروايات الضعيفة، وبكل ثقة من على المنابر، رغم وجود دراسات “تخصصية” تضعف هذه الروايات، ومع ذلك لا يتم انتقادهم من قبل المؤسسة الدينية بذات اللغة الحادة، فضلا عن إيقافهم أو إلزامهم بمعايير أو شروط يتم إخضاع مادتهم الثقافية لها.
والمشكلة أنّ هذه المفاهيم هي التي تصنع وعي الناس، وتصيغ فهمهم للدين. ولا نجد أحدا يقول لهؤلاء الخطباء، اتركوا هذه المسائل والروايات تُناقش في داخل الحوزات والمعاهد الدينية.
فالأولى إذا كنا سنوجّه نقدا كهذا، أن نمنع أولا المنابر من التعاطي مع هذه الافكار والروايات والعقائد في الفضاء العام، لا أن نترك الحبل لهم على الغارب، ثمّ لمّا يجيء من يقدّم لهم النقد، نقول له دع نقدك للغرف المغلقة.
ثالثا: أمثال هذه المفاهيم التي يناقشها هؤلاء الأفراد أو المؤسسات النقدية، تمسّ صميم معتقدات الناس، وحياتهم، ووعيهم الشخصي والجمعي بالعالم وبالآخر وبالدين.
وهي مفاهيم تحتاج – على الأقل من وجهة نظر النقّاد – إلى إصلاح وتصحيح بشكل مباشر من خلال مشاريع جديد واطروحات جديدة ومباشرة.
فإذا كانت المعاهد الدينية والحوزات لا تقوم بواجباتها في تنقية الموروث ومعالجة المشاكل المعرفية المعاصرة، فسيقوم بذلك الدور آخرين، وعلى الناس بعدها أن تقيّم كل طرح بنزاهة وحرية. إذن، فلتسمع الناس الآراء كلها، وتقيّم، وتختار.
رابعا: ومن قال أصلا أنّ هؤلاء النقّاد يؤمنون أصلا بمبدأ “التخصص” بالكيفية التي يتم عرض هذا المبدأ فيه اليوم؟
ومن قال أنّ أصحاب أي طرح جديد يثقون بآليات البحث والتحقيق المعمول بها في المعاهد الدينية الكلاسيكية والحوزات، حتى ينتظروا من “المحققين” تصحيحا أو توضيحا على هذا الإشكال أو غيره، حتى ينتظروا منهم إذنا على آلية أو مكان طرح إشكالاتهم أو “شبهاتهم”؟
أصحاب الفكر الجديد يرون أنّ مناهج المدارس الدينية هي أصلا جزء من المشكلة، وآلياتهم في التحقيق قد عمّقت الخلل، فكيف إذن يلجؤون إليهم، لينتظروا منهم معالجة للإشكاليات؟
وهل ما يطرحه النقّاد والمؤسسات التجديدية حول الأحاديث والعقائد والتفسير ينسجم مع آليات عمل المؤسسة الدينية في التفسير والتحقيق والتنظير حتى ينتظروا منهم تصحيحا؟
فعلى سبيل المثال، إنّ دراسة الحديث من حيث السند، أو من خلال علوم الجرح والتعديل، لا تعالج المشاكل الجوهرية التي تعاني منها المنظومة الحديثية، وقد طرحت أمثلة عديدة على ذلك. فكيف نلجأ للمؤسسة التي تجعل هذه الآلية أساسا في التصحيح والتحقيق؟
خامسا: إنّ الذي نحتاجه اليوم ليس تغييرا في مناهج الحوزة، فهذا هدف صعب المنال، لأنّها مدارس قد ترسخت فيها مناهجها الحالية لحدّ الصنمية (ليس قدحا في المحققين الأفاضل جزاهم الله خيرا، ولكن هكذا هي طبيعة الأمور) ولكن الذي نحتاجه هو أن يسود وعي جديد ومعرفة جديد. والجدل الاجتماعي والتفاعل الذي يحصل مع أي طرح جريء أو جديد هو طبيعي جدا، وهو يزامن كل فكر جديد، وهذا ليس داعيا أو سببا للإستيحاش منه، بقدر ما ينبغي أن يكون سببا للدفع والمساهمة بعجلة التغيير والإصلاح.
سادسا: هل ردة الفعل السلبية والانفعالية لبعض العلماء أو النخب أو الناس، مدعاة لتوقّف عجلة النقد والإصلاح والتجديد الديني؟ لا طبعا، فالصوت العالي ليس معيارا على صحة او خطا أي طرح، والذي {يريد} أن يسيء فهمك وفهم أفكارك، ويسيء الظن في نواياك، لن يجدي معه شرح أو توضيح، فهو سيسيئ فهمك دائما، وسيحاربك في كل الاحوال، وسيخترع الاسباب للاصطدام معك.
لذلك فلا ينبغي أصلا للمصلح أن يدير بالا أكثر من اللازم لهذه الأصوات، أو يلتفت لحدّ أن تعيقه عن الحركة والنقد، فذلك قد يكون دليلا على ضعف الهمة، فضلا عن أن تُعطى هذه الأصوات أصلا وزنا زائدا بحيث تدفعنا لتغيير مسار العمل أو المشروع برمته. إنّ الانسان الذي لا يضع وزنا لخفق النعل ولصوت الجماهير، لا يدير البال كثيرا لهذه المسألة.

إنّ الهزة الثقافة المرافقة لكل تغيير ثقافي مفيدة، فقد كان بالإمكان لهذه الأفكار أن تبقى مدفونة حتى لا تُقلق أحدا ولا تزعج بال أحد، ولكننا حينها سنكون – بسكوتنا وصمتنا – قد خذلنا أنفسنا، وارتكبنا خيانة لا تغتفر تجاه خالقنا (سبحانه) وتجاه ديننا، بتخلينا عن مسؤوليتنا التاريخية.
Scroll to Top