السورة هذه نزلت في البدايات الأولى للدعوة، ولم تكن صلاة الفريضة أساسا حينذاك إلا ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها. كما لم يبلغنا من المسلمين الأوائل ما الذي كانوا يقومون به في اجتماعاتهم الأولى (كالتي كانت في دار الأرقم مثلا)، فهي قد كانت لقاءات سرية. ولكن من المؤكد أنهم لم يكونوا يصلون صلاة الليل، التي لا يستحب فيها الاجتماع أصلا، فقد كان يقوم النبي (ص) مأمورا في الآيات بحسب سياقها أن يقوم مع طائفة من الذين معه أي أنّ الفعل كان جماعيا، وهو الذي لا ينسجم مع كونها كانت صلاة.
أضف إلى ما تقدّم، أنّ صلاة الليل وقتها هو النصف الثاني من الليل أساسا (وتستحب أن تكون وقت السحر)، لا في النصف الأول، بينما السورة تتحدث عن النصف الأول (قم الليل إلا قليل نصفه أو انقص منه قليلا).
فإذا افترضنا أنّ الليل تقريبا هو نصف اليوم (تقريبا 12 ساعة)، يبدأ من غروب الشمس، وينتهي عند مطلع الفجر، فقيام الليل الذي ورد في السورة يبدأ من بعد غروب الشمس، أي عند ابتداء الليل، ثم يستمر لنصف الليل (تقريبا ست ساعات) ليتم ذلك نصف الليل الذي تحدث عنه الآيات. ويمكن النقصان أو الزيادة منه قليلا بحسب السورة فيكون متراوحا ما بين الخمس إلى السبع ساعات. وبالتالي فقيام الليل في السورة، لا علاقة له بصلاة الليل مطلقا، بل لم يكن لصلاة الليل حينها وجو أصلا. فما هو قيام الله إذن؟
حتى نعرف ذلك، لنعود قليلا لواقع مكة عند بعثة النبي (ص)، وطبيعة حياة الناس فيها. الناس كانت تبدأ أعمالها بعد طلوع الشمس، وتنتهي بعد الزوال لقرصها أي غروبها، يقضون يومهم في أعمالهم وحوائجهم ومزارعهم، وينتهون من كل ذلك قبل حلول الظلام. فما الذي يحدث بعد الغروب؟ في العادة لا شيء جاد، أو مجرد مجالس لهو وسمر، أو استعداد لليوم التالي.
في هذا السياق نزل القرآن، وسورة المزمل التي كانت من أوائل ما نزل، فجاءت ليقلب تلك الحال، وتؤكد على أهمية هذا الوقت المبدد والضائع، وتؤكد أصلا أنّ هذا الوقت هو {العمر الحقيقي} للإنسان، فإنّ بقية اليوم يكون إمّا في العمل والكد للقمة العيش (النهار) أو للنوم (النصف الثاني من الليل). لذلك كانت السورة تدفع باتجاه استثمار هذا الوقت، فهو وقت صالح للمراجعة والمحاسبة وتقييم الأمور واستعراض الهموم ومعالجة الآلام، فهذا الوقت هو للنبوغ والامتياز الصعود والبذل. فالأمر بقيام الليل، هي دعوة القرآن للنبي (ص) وأصحابه لاستثمار هذا الوقت (النصف الأول من الليل) واستغلاله بدل تضييعه وتبديده كما كان الحال عند أغلب الناس قبيل نزول الوحي.
وبناء على هذه التوجيهات، كان المسلمون في بداية الدعوة يجتمعون في هذا الوقت، أي من أول الليل إلى منتصف الليل، يراجعون ما صارت له الأحوال، ويعيدون تقييم برامجهم، ويخططون، ويسألون هل انجزوا ما اتفقوا عليه من أمر الدعوة! وهذا هو امتثالهم لأمر القرآن بقيام الليل. وهذه المراجعات والمجالس التقويمية والارشادية والتنظيمية، هي قيام الليل.
هذا الوقت من الليل، الذي كان مبددا في السابق، هو وقت حساس وجوهري، لأنه العمر الحقيقي الذي يمكن استثماره للتطور. وإذا ما أردنا أن نرى مثيل ذلك الوقت في لغتنا اليوم، فهو الوقت الأهم حيث تعقد الأنشطة والفعاليات والديوانيات، أو هو الوقت الذي يبدد في اللهو واللعب والضياع والتيه والكسل، وقليلون هم الذي يستمثرونه في النماء وفي التطور الروحي والعقلي.
الساعة البيولوجية للبشر تعمل هكذا (وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا). فأمر معاش الناس متعلق ببقاء النوع، فهو مقدم في الأهمية على أي شيء أخر، وفي العادة هو الذي يتم استمثار النهار فيه. كما أنّ النوم ضرورة للبقاء، ولكنه لا يتطلب إلا جزء من الليل، فيبتقى جزء آخر من الليل، متوفر خارج ضرورات البقاء. والناس بين مسرف ومترف فيه، وبين مستثمر فيه لتأهيل انسانيته والاستمثار في وجوده وارتقاءه الروحي.
فقيام الليل إذن، هي دعوة للمسلمين لكسر روتين العادة، والبدء بقيام الليل أي أن يستعيدوا زمام أنفسهم، ويبذلوا هذا الجزء من يومهم ووقتهم في التطور والنبوغ والتخطيط، بدل تضييعه كما كان في السابق.