لقد اشتغلت مكينة القصّاصين في اختراع أعاجيب القصص والخرافات حول حادثة حرق إبراهيم (ع)، فرسمت التفاسير صورا بدائية لا تليق بالله ولا بحكمته ولا بأنبيائه؛ كادعاء بعضهم أنّ الدواب امتنعت عن حمل الحطب إلا البغال، أو أنّ الوزغ كانت تنفخ النار على إبراهيم فصار قتلها مستحبا. والأشهر ادعاءهم {الخاطئ} أنّ إبراهيم (ع) مكث في النار دون أن يحترق أو يصيبه أذى فقال بعضهم عن الله في هذا السياق: “عطّل سنن الكون ونواميسه فسلب النار قدرتها على الإحراق”. فهل هذا كلام شخص قرأ القرآن لينتج لنا هذا الدين؟
هكذا عطّلوا النواميس، وبدّلوا نظام الكون، وجمّدوا العقل، وألغوا اشتغال نظام المحكمات في القرآن. ثم قالوا: (معاجز سيدنا إبراهيم)، وأرادوا لنا التصديق! فما الذي حصل بالضبط لإبراهيم عليه السلام؟
لقد حكم الكهنوت على إبراهيم عليه السلام بالتجديف والهرطقة، وكان الحكم هو الإحراق حتى يكون عبرة لغيره، وتكون عقوبته دليل على غضب الآلهة. ولكن {نار إبراهيم كأي نار آية من آيات الله، لا تغيّر سنتها لموت أو حياة أحد).
تماما كما قال الرسول ص لمن استعجب من تزامن كسوف الشمس مع وفاة ولده ابراهيم: “إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة، ليعلمهم ثوابت العلم والايمان، وثبات النواميس، ويقطع الطريق عن الدجل والاستغلال. قال الله تعالى: {فأنجاه الله من النار} لذلك لنسأل الآن: ما هي أسهل طريقة لإنجاء شخص من النار؟ الجواب سهل جدا، ولكنّ الذي صعّب السهل، وجعله عسيرا، هو تشوّه سنن الله في عقولنا، وتشوّه تراث الأنبياء عليهم السلام!
السؤال القرآني جوابه قرآني فتأمل آيات الإنجاء في القرآن. هل نجّى الله نوحا ع من الطوفان أو لوطا ع من البركان، بشكل خرافي خارق للسنن، أم عبر الأسباب الطبيعية؟ كل الإنجاءات هي بأسباب طبيعية. لا يوجد تبديل للكينونات! ودعك من الإرث الديني المشوّه وما صاغوا به وعينا من أوهام!
فإنقاذ الله لإبراهيم (ع) أو أي إنسان يلقى في النار ليس بخرق الناموس، بل بأسباب وتدابير وتوفيقات، أمّا إذا ألقوا في النار بلا خطّة إنقاذ ولا سياسة دفع بلاء، فسيحترقون حال كلّ المؤمنين في التاريخ وكل الأنبياء والصالحين، وستشتغل بهم سنن الكون والطبيعة. مع الأسف، فإنّ الإرث الديني صاغ إنجاء إبراهيم (ع) من النار بطريقة خيالية مشوّهة (سمّاها معجزة).
عودا للنار، فالعلم يعلّمنا أنّ النار لكي تبقى مشتعلة تحتاج لثلاثة عناصر، تسمى بمثلث النار 1) وقود، 2) حرار، 3) أكسجين. ولإطفاء النار، يجب تعطيل أحد الشرائط الثلاثة هذه: فإمّا 1) خنق النار بمنع الاكسجين، أو 2) إبعاد وقودها عنها أو حجزها عنه بسواتر ترابيه وبالتالي إماتتها، أو 3) {تبريد} النار إما برشها بغازات غير موصلة للحرارة، أو (بالماء).
فمثلّث نار إبراهيم (Fire Triangle)، بأضلاعه الثلاثة، ويكفينا {إلغاء} ضلع منه لإنجائه؛ ضلع الأكسجين ونتيجته: (يا نار اختنقي، وضلع الحرارة ونتيجته: (يا نار ابردي) وضلع الوقود ونتيجته: (يا نار موتي). هذا نظام الله تعالى، فما الذي قاله الله للنار، وعلى أيّ ضلع دخل الإنجاء وكان له أن يدخل؟ وفق نظامه، وبطريقة طبيعية ممكنة ويسيرة وتتناسب وذاك الظرف؟ قبل إتمام الفكرة، لنعود قليلا ونسأل التفسير: هب أنّ الله تعالى قد برد النار بالطريقة الخارقة كما يزعمون فمكث في النار دون أن تمسه حرارتها فما الذي سيمنع موته من استنشاق أول أكسيد الكربون او تسمم ثاني أكسيد الكربون أو نقص الاكسجين، وهي الأسباب الاهم في الوفاة من الحريق، لا الحرارة؛ لأن التفسير قد ربط الانجاء بعدم وصول الحرارة؟
وعودا للنار، قال الله تعالى: “قلنا يا نار كوني {بردا} وسلاما” فلا حلّ لإيجاد أكسجين ينجو به إبراهيم، ومنع الغازات السامة ينجو منهما إبراهيم، وعدم احتراق إبراهيم بالنار لينجو إبراهيم، وتكون النار برداً وسلاما، لا حلّ إلا أمرٌ واحد، هو: {تبريدها}، كما قال تعالى. وإزالة ضلع الحرارة هذا يمكن أن يكون بهطول الماء لتبرد وتنطفىء. وإلّا، فسيكون الدين في مشكلة حقيقية وعويصة مع العلم وقوانين الكون.
لذلك فإنّ الإنجاء تم عبر إزالة ضلع الحرارة، عبر التبريد (كوني بردا)، والطريقة {الأرجح} لذلك هي عبر المطر الغزير أي تسخير أسباب وقوى الطبيعة ضمن إطار النواميس الناظمة للعالم.
بهذا ممكن فهم بعض الأمور الكارثية التي حدثت كعقوبات طبيعية أو كنصرة للأنبياء وغيرهم، لا أنه خرق لسنن الطبيعة، بل تسخيرٌ لها واستعمال لقوانينها الربانية، كما رأينا في ريح معركة الخندق التي كسّرت مُعسكر القرشيّين سمّاها سبحانه (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها). لا تحتاج السماء لاختراق نواميسها لإنقاذ نبيها عليه السلام، وبين يديها ألف سبب. أسهل حل هو إطفاء النار، أو جعلها لا تصل إليه بالمرة بترطيب الخشب، ولا حاجة لاختراع أفلام خيالية أوقفت السماء ألهبة النار المهيبة وأضعفتها حتى طفأتها بمطر غزير من السماء!