سورة البقرة، هويتها، ودلالة (أ ل م)، والإحياء من الموت

أفكار من سورة البقرة، هويتها، موضوعها العام، ودلالة (أ ل م)، والإحياء من الموت فيها، بحسب برنامج “للتي هي أقوم” لجمعية التجديد الثقافية، تقديم الاستاذ جلال القصّاب.
أحد أساسات التعاطي مع السور القرآنية (في منهج جمعية التجديد) هو التعاطي معها على أنها وحدة متكاملة مختصة بموضوع واحد. وهذا الموضوع يكون متعلقا بالظرف والواقع التي نزلت فيه. فخلاف ذلك معناه أن القرآن (كلام الله) كلام فضفاض عام ليس له هدف ومقصد في مسيرة النبي الرسالية.
فالسورة موضوع متكامل ذو هوية واحدة، جميع آياتها تعمل في نسق واحد وفي اتجاه واحد لهدف محدد ورسالة متقصدة. فإنْ خالفنا ذلك وتعاطينا مع القرآن على إنه آيات متفرقة تحت مظلة سورة، فلن يكون معنى لوجود الآيات في سورة أو عداها.
وهذا ليس من حكمة الله، ومخالف لكمال النسيج القرآني المحكم، حيث كل آية مموضعة في مكانها الصحيح، ولو أخذت من مكانها لآخر لاختل المعنى والسورة والقرآن كله، فعند الحديث عن سورة البقرة فنحن نتعاطى مع سورة في بدايات الحقبة المدنية حيث عانى الرسول من عنت أهل الكتاب في يثرب (يهود المدينة).
ومواضيع السورة تظهر هذا بوضوح حيث إنها تزخر بالقصص من تراثهم، وأحكام من توراتهم، ورسائل مباشرة لهم بأن هذا هو الرسول الموعود في نبوءاتهم.
وأحد المواضيع المتكررة في سورة البقرة هو موضوع “الإحياء من الموت”، الذي فسر خطأ على أنه الإحياء الجسدي، بالرغم من غياب أي حاجة لهذا الإثبات في المدينة، فلسنا في معرض إثبات المعاد والبعث يوم القيامة.
لا وجود لهذه القضية في الواقع، فهل القرآن ينزل قصص عديدة في هذا السياق (سبع موارد) ليعالج قضية مسلم بها سلفاً؟ فالإحياء من الموت المقصود في سورة البقرة هو إحياء موتى القلوب، ليؤمنوا بهذا الرسول الموعودين به في توارتهم بدل أن تقسى قلوبهم فتكون كالحجارة كما ذكرت السورة مباشرة كتعقيب على قصة البقرة.
وهذا ليس تفسيراً باطنياً، أو إشارياً، إنما هو المعنى المقصود صراحة من الآيات. وليس من أصالة، أو أولوية، للمعنى المادي “الحقيقي”، على المعاني المعنوية “المجازية“. الأولوية، أو الأصالة، هو لسياق الكلام وللمعنى المقصود من النص نفسه.
مثلا: الآية 54 في سورة البقرة، حيث بإمكاننا الآن فهمها بشكل صحيح يتسق مع السياق والمنطق ويفضي إلى هدى حقيقي مبني على إصلاح الذات. ف”فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم” هو قتل للنفس الدنيئة (الأمارة بالسوء) التي في داخل المرء فيصلح حاله، بدلاً من الإيمان أنها عملية انتحار جماعية.
فأي توبة وهداية تأتي من أن تقتل جماعة نفسها (سواء كان ذلك بانتحار كل فرد أو قتل بعضهم بعضاً)؟ وكما قلنا آنفاً، سورة البقرة نسق واحد، موضوع واحد متكامل، وليس آيات متفرقة مشتتة الاتجاه. بل كلها تصب في شيء واحد يمكن ضمه تحت عنوان “البقرة”.
وهذا النهج يضم الآية الأولى، الآية اللغز التي حيرت الكثير، مفسرين وغيرهم، لإبهامها الملغز والغريب: “ألم“. فالآية هذه وحدها تلخص رسالة السورة كلها، في ترميزها المختزن، والقائم على اللغة التي انبثقت منها اللغة العربية، أو العربية “الأم” القديمة (السريانية والفينيقية).
فاللغة العربية ليست منبترة عن الجبل العربي التي قامت عليه، وترميز “ألم” يمكن فك شفرته بالرجوع إلى الأبجدية الأولى التي كونت الحروف (أبجد هوز حطي كلمن) ويمكن البحث في الأبجدية الفينيقية لمعرفة أصل الحروف التي نعرفها اليوم لنرى أن كل حرف مؤسس على معنى واقعي لصيق بعالم الإنسان الأول.
من هذا نستقي، أن الـ”ألف” هي الثور (وترسم برمزه)، والثور هو المسخر، الأليف. ويرمز إلى السيد الذي “تألفه” السماء (الراعي). والـ”لام” هي اللامة، عصا الراعي (وترسم برمزها). والـ”ميم” هي الماء أو الثدييات، منبثقة من صوت الطفل داعياً أمه (م م) يطلب “ماءه“. والمعنى الكامل هو “الثور يلم البقر” في عالم الطبيعة، الذي يقابله “الراعي يلم رعيته” في عالم الإنسان، حيث “تألف” السماء (تختار) فرداً يكون هو الراعي، به يتم لم الرعية الضائعة (الخراف الضالة حسب النص الإنجيلي) هذا المفهوم يكدس قضية سورة البقرة كلها، لذلك كانت افتتاحيتها به (ألم).
ثم تأتي قصة البقرة، التي هي مثال صارخ على تلكؤ بني إسرائيل، وتعنتهم، في أن يلتموا بعصا راعيهم، أسلافاً وأخلافاً. وبالتالي هذه القصة تمثّل نموذجا واضحا لغرض السورة وهدفها وهويتها، ولذلك سُمّيت السورة باسم البقرة.
فالقصة تحكي حادثة قديمة من موروث يهود يثرب التوراتي، تحكي قصة مقتول وقاتل مجهول الهوية. هذه القصة مطابقة لقصة معاصرة في زمن النبي (ص) مع ذات القوم. فالقصة المسرودة التاربخية لها ظاهر (ذبح بقرة)، فذلك كفارة القتيل حسب شريعة اليهود، وباطن (سبب الجريمة “المرأة”)،
ولها في الوقت ذاته إسقاط واقعي حاضر لذلك فإنّ الضمير في “وإذ (قتلتم) نفسا” متعمد؛ فبالرغم من أن القاتل الحقيقي في (زمن موسى) هو شخص واحد إلا أن الايات تريد أن تطوي في أعماقها المستهدف الحقيقي من القصة، وهم يهود الحاضر (قتلتم)، الذين قد ارتكبوا جريمة مماثلة بقتلهم أحد المسلمين.
والآيات بها تكرار غريب لـ”إنها بقرة” لا تستقيم مع كون القرآن محكم ليس به حشو خال من المعنى، ولذلك فهي دلالة لشيء آخر مطوي في الآيات، وعبارة “لعلكم تعقلون” إشارة لذلك. والقصة كلها هي مورد لـ”إحياء القلوب” ليهود يثرب، كما كانت فرصة “إحياء قلوب” لأسلافهم الذين تعنتوا وقست قلوبهم.
فإحياء القلب هو بالتعقل وبتبصر أخلاق النبوة ورؤية “نبوته” في إخباره للغيبيات. فكيف يأتي الرسول بقصة لا يعرفها أحد إلا كهنتهم في توارتهم، بحذافيرها وبالصيغة التي تطلب استيقاظهم وتوعيتهم بأن هذا الرسول هو الحق. وهذه الآية مفصلة في مقال: ما هي قصة البقرة الصفراء؟
كما كانت لأسلافهم فرصة لإحياء قلوبهم بسلوك طريق التعقل في البحث عن الجاني بدل من التلكؤ وتحدي موسى (ع) وربه في الإتيان بالمعجز من الغيب وبما تشتهيه أنفسهم الدنيئة.  فـ”كذلك يحيى الله الموتى” هو عبر تبصر الحق الذي ينطق به الرسول (في الحاضر بالنسبة ليهود يثرب).
و”كذلك يحيى الله الموتى” بالنسبة للأسلاف، عبر تعريفهم بالباطل ظاهراً (بعد سلوكهم طريق العناد والتلكؤ والعنت) بعد أن استنطق القتيل باسم قاتله، وكذلك عبر الإشارة لهم لطريق معرفة القاتل (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ففيها خيوط القضية كلها. فـ”كذلك يحيى الله الموتى” أي بالتعقل والتبصر، ورؤية أخلاق النبوة (محمد وموسى عليهما السلام) حين ألف قلوبهم وتجاوز رعونتهم، وإتيانهم بالغيبيات من السماء (قصة البقرة وهوية القتيل).
وإن سلكنا في هذه الآية بالذات طريق الظاهر (المادي) مصرين على أن هذه القضية هي قضية إحياء جسدي مادي، فذلك سيحيل جملة “كذلك يحيى الله الموتى” على طريقة الإحياء ذاتها (بضرب الجثة بذيل البقرة).
وهذا لا يستقيم لا مع آيات القرآن البقية في الإحياء الجسدي التي تمثل قضية المعاد والبعث من القبور، ولا يستقيم مع العقيدة المتفق عليها في المعاد قطعا، بالإضافة إلى لا منطقيتها الصريحة يضاف إلى ذلك، خلو الآيات من احتجاج إثبات الإحياء المادي (لكي يتم الرد عليه: كذلك يحيي الله الموتى)
وأيضاً، لا معنى للإتيان به في السياق التنزيلي لسورة البقرة وظرف الرسول مع اليهود (فلا أحد يناقش هذه القضية أصلاً). هذا فضلاً عن خرقها لناموس الله في الإحياء والممات.
(كذلك يحيى الله الموتى)، تتسق مع بقية قضايا سورة البقرة في إحياء موتى القلوب (الذي قست قلوبهم). هو ذاته “الخروج من الظلمات إلى النور” في آيات الكرسي، وهو ذاته في القصص الأخرى في سورة البقرة التي سيتم التعرض لها في المستقبل.
كقاعدة عامة: إنّ تضييع هوية السورة، والمخاطب الحقيقي المستهدف منها، ساهم بشكل كبير في عدم فهم المراد من “كذلك يحيى الله الموتىوأنّ معرفة ظروف نزول السورة، وحقيقة الابتلاء الذي واجهه كلا النبيين موسى ومحمد (ص) مع أقوامهم كفيل بإيضاح غايات ومعاني الايات الكريمة هنا.
ويمكن التأكيد على أنّ معنى “كذلك يحيي الله الموتى” أنّها لا تعني موت الجسد أبدا، عبر مناقشة آيات البعث في القرآن الكريم، وذلك عبر الانطلاق من الثوابت في كتاب الله، والتأسيس على محكماته.
فلو سألنا: هل أخبرنا القرآن كيف يتم احياء الموتى؟ هذه بعض الآيات تعطينا الجواب:
“ومنها تخرجون”
“فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نُخرج الموتى”
“ويحيى الأرض بعد موتها وكذلك تُخرجون”
“فسقناه إلى بلد ميت فأحينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور”
“والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تُخرجون”
“وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج”

لنعيد السؤال بعد النظر لهذه الآيات: كيف يحيى الله الموتى؟
لاحظ كلمة “كذلك” ليحدد الكيفية الوحيدة التي بها يتم إحياء الموتى. هذه تبين كيفية وطريقة واحدة للبعث وإحياء الموتى. ولا يوجد في آيات الاحياء من الموت طريقة أخرى لإحياء الموتى، فهو قد حدد ب (كذلك).
راجع كل آيات في كيفية احياء الموتى ستجد أنّها تخبر بطريقة واحدة فقط. لم يقل الله “فيحييكم بالكيفية التي يشاء” مثلا، وإنما قال “كذلك” بالكيفية الوحيدة، أي (بمثل) هذه الطريقة فقط يتم إحياء الموتى، أي البعث من الأرض بعد الموت. وقد عيّن سبحانه بشكل محكم الطريقة الوحيدة في إحياء الميت عبر هذه الآيات الكثيرة.
ولنسأل كيف سيعيد الله خلقنا في الآخرة؟ الجواب: كما بدأكم تعودون. أي عبر الكيفية الوحيدة، وهي الخروج من الأرض كما تحيى الأرض الميتة، “ويحيى الأرض بعد موتها (وكذلك) تخرجون” (like that)
“كما بدأنا أول خلق نعيده”، “كما بدأكم تعودون”، “الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الانسان من طين”
ولا علاقة لذلك بعدم قدرة الله (تعالى عما يصفون) وإنما لأنه جعل سنته وقوانينه هكذا. وحدد طريقة واحدة للإحياء من الموت، لا ثاني لها أبدا.
الله تعالى لم يسكت، حتى نقترح ونضع الاحتمالات في كيفية الاحياء من الموت، بل علينا أن نصدقه حين قال “والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا”. لم يقل سيحيينا كما يشاء حتى نضع الاحتمالات من عندنا، ونختلق كيفيات من عندنا، كقولنا مثلا أنّه يمكن إحياء ميت عبر ضربه بذيل بقرة، أو عبر معجزة لنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو عبر الاتيان بعظام ونركبها ثم نضيف عليها لحما. فهذا نقض للمحكم الذي بينه القرآن.
لذلك عندما يقول مثلا في نهاية قصة البقرة في سورة البقرة “فقلنا اضربوه ببعضها (كذلك) يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون”، دلّنا ذلك أنّه لا يقصد الاحياء الجسدي، لأنّه قد بيّن لنا كيفية إحياءه موتى الجسد في الكثير من الآيات كما أشرنا، فهو حين يقول (كذلك) هنا في آية قصة البقرة، فهو يقصد بهذه الكيفية فقط وحصرا يحيى الموتى. فأي موتى إذن يتكلم عنهم هنا؟ وأي كيفية يتكلم عنها إذا كان قد قرر مسبقا كيفية احياء موتى الأجساد؟ إنه يتكلم عن موتى القلوب والارواح.
فآيات قصة البقرة تخاطب الأمة الميتة ذات الأرواح الذابلة، والقرآن يحاول استنهاض قلوبهم وعقولهم، لذلك ذكر لهم القصة التي فيها الطريقة الوحيدة لحياة قلوبهم، فقال لهم بعد القصة (كذلك) يحيى الله الموتى، أي بهذه الطريقة فقط، وفقط، يحيى الله قلوبكم الميتة. الله سبحانه يريهم علوم عقلية، وغيبية، ويسرد لهم قصة ذات عبرة تعالج مشاكلهم ولجاجهم وكبرهم وتعصبهم، فيشهدوا بذلك علوم الغيب كما تتجلى لهم أخلاق النبي (ص)، فيعقب عليها (وكذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) أي عبر هذه الأمور سيحيكم الله من موتكم وسباتكم، فهو يريدهم أن “يعقلون” ويتركوا الجهل الذي هم فيه. لذلك لاحظ الآية التي بعدها مباشرة تقول “ثم قست (قلوبهم) من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة” فحين لم تستجب قلوبهم لدعوى الحياة، قست وكانت كالحجارة. الآيات واضحة وسياقها واضحة، لا إحياء جسدي فيها ولا هم يحزنون. الله بعث الرسول (ص) ليبعث الروح في هذه الأمة الخاملة، ويستنهضهم بالآيات والبراهين العقلية، ويريهم آيات منطقية وعقلية وقلبية، ليجزم العقل أنها لا يمكن إلا أن تكون من الله تعالى، فيحيى به قلبه ويستجيب قلبه (إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله). وبهذه الكيفية فقط يحيى الله الموتى في الحياة الدنيا، وهذه كل قصة البقرة. أما قصة البعث فقصة مختلفة.

Scroll to Top