مقدمة
يناقش هذا البحث إشكالية ذكرها بعض اللادينيين حول النبي (ص) والوحي، بهدف الرد عليها، ورفع الشبهة عن نبينا الكريم (ص).
تدعي هذه الإشكالية أنّ ظاهرة الوحي وتجربة النبي (ص) الروحية هي إمّا نتيجة (عوارض عصبية) كانت تصيبه (ص) أو حالة من حالات الصرع، ويسمى علميا صرع الفص الصدغي Temporal Lobe Epilepsy (TLE).
وقد ذكر وأيّد ذلك بعض الباحثين في العقود الأخيرة، فقالوا: أنّ النبي (ص) كان مصاب بمرض صرع الفص الصدغي، و”الوحي” كان مجرد أعراض لذلك المرض، أو أنّ الوحي لم يكن إلا نشاطا عصبيا في الدماغ، وليس وحيا أو خبرا من السماء. ومن هنا خصصت هذا البحث للرد على هذا الإشكال، وتفنيد قولهم، والرد على أدلتهم في ذلك.
تقوم هذه الفرضية (أي أنّ ظاهرة الوحي هي نشاط عصبي أو صرع الفص الصدغي) على عدة اعتبارات تمّ استخلاصها من كتب التاريخ التي سردت سيرة النبي (ص)، ومما ورد من آثار كانت تظهر عليه عند نزول الوحي، وكذلك من بعض معطيات العلوم العصبية والنفسية الحديثة.
وحيث أنّ المجال هنا لا يتسع للتفصيل، فإنّي سأستعرض بشكل موجز أعراض مرض صرع الفص الصدغي TLE، ثم أستعرض أدلة القائلين بأنّ ظاهرة الوحي في حالة الرسول (ص) هي أعراض إما لنشاط عصبي في الدماغ أو أعراض لمرض صرع الفص الصدغي مع ذكر الشواهد التي استدلوا بها لإثبات ذلك، على أن أناقش أدلتهم بعد ذلك، وأرد عليها، لتفنيدها، ولنفي احتمال أن يكون “الوحي” كما يدعون.
صرع الفص الصدغي Temporal Lobe Epilepsy (TLE)
صرع الفص الصدغي هو اضطراب في الدماغ، يصيب منطقة الفص الصدغي، وينتج عنه نوبات صرعية قد تنتج سلوكيات أو أعراض غير عادية في بعض الأحيان إذا كانت {نوبة جزئية} أو قد تصل لفقدان الوعي الكامل إذا كانت {نوبة معممة}.
كثيرا ما تكون نوبات صرع بؤرية أو جزئية في منطقة الفص الصدغي فقط، فيكون الانسان واعيا خلال النوبة في تلك الحالات، وبمعزل عن تفاصيل أسباب وكيفية حدوث هذا المرض، فإنّ من أعراضه المحتملة هو حصول أحاسيس غير طبيعية عند المريض، كالأحاسيس السمعية/البصرية/التذوقية. أو قد تنشأ لديه مشاعر مضطربة وحادة ومفاجئة من الخوف او الابتهاج، أو شعور بالغثيان، والتعرق. أحيانا تحدث اضطرابات غريبة في التفكير، أو اضطرابات مزاجية كالحزن والاكتئاب، أو اضطراب اغتراب المريض عن نفسه وعن الواقع الخارجي derealization / depersonalization. وأحيانا يفقد المريض اتصاله بالمحيط، أو يحدق بشكل مستمر في اتجاه محدد.
تستمر النوبات بين ثلاثين ثانية الى دقيقتين في الغالب. قبل النوبة أحيانا يحدث ما يسمى بالaura، ويتضمن ذلك هلاوس سمعية او شمية وغيرها. بعد النوبة قد يصاب المريض بفترة عجز او اضطراب ذهني مؤقت، أو حتى ذهان.
إضافة إلى أنّ النوبات عندما تتكرر، فذلك يزيد من نسبة واحتمالية فقدان الذاكرة النسبي للمريض. ويمكن مراجعة أي صفحة طبية للمزيد من التفصيل حول المرض وأعراضه.
علم الأديان العصبي
وقبل الولوج في مناقشة مسألة الوحي الذي نزل على نبينا (ص)، لابد من تقديم شيء بسيط عن علم ما بات يعرف اليوم بعلم الأديان العصبي أو علم اللاهوت العصبي. وهو العلم الذي يدرس علاقة التجارب الدينية والروحية، وحالات التدين عموما، بدماغ الانسان وجهازه العصبي، وكذلك بالظواهر والاعراض العصبية عند الانسان.
تاريخيا، اختلفت النظريات حول الوحي والتجربة الدينية (راجع سلسلة الشيخ حيدر حب الله حول “الوحي والتجربة الدينية”). ولكن في العقود الاخيرة، ونتيجة لظهور معطيات علمية جديدة، ظهرت النظرية العصبية التي تزعم أنّ التجارب الدينية، وربما (الوحي) هي نتاج عوارض نفسية وعصبية، أو نتاج الإصابة بمرض الصرع وتحديدا صرع الفص الصدغي؛ وذلك بملاحظات أقامها العلماء على النشاط العصبي في دماغ الانسان. وعلى أية حال، فقد ربط القدماء مرض الصرع ب(المقدس) والدين. 1
وقد وصل الحد ببعضهم في العصر الحديث إلى تعيين مناطق محددة في الدماغ، وعصبونات أو ناقلات عصبية محددة، هي المسؤولة عن إنتاج فكرة الله تعالى، أو الشعور به God neurons and God neurotransmitters2 وتحدثوا عن {كيمياء الله}3.
وقد لوحظ في بعض التجارب العلمية ازدياد وانخفاض نشاط مناطق معينة في دماغ من تجرى عليهم التجارب، عندما كان أصحابها يخوضون تجارب روحية، أو يفكرون في الله تعالى. وبدا للبعض منهم أن يقول أنّه طالما أنّ تلك المناطق تنشط مع هذا النوع من التفكير، فلعل الدماغ هو في الأساس المسؤول عن إنتاج التصورات الدينية أو الأحاسيس بوجود إله، أو حتى فكرة وجود الله تعالى، والشعور بوجود تواصل معه.4,5
بمقاربات كهذه – بحسب زعمهم – يمكن تقويض الأساس المعرفي لفكرة الاتصال بالغيب، تلك الفكرة الذي أصر على وجودها الانسان –بنزعته الدينية-منذ القدم، وأصر بالتالي على وجود جوهر متعالي ومفارق للإنسان. لقد أصبحت المسألة برمتها -في نظر هؤلاء- محصورة في دماغ الانسان.
تجارب علمية
من أوائل التجارب في هذا الصدد كانت دراسات slater and Bear 6. فعن طريق سلسلة من التجارب على تسعة وستين شخص مصابين بمرض الصرع – بأنواعه المختلفة- من الذي لديهم أعراض (ذهان)، لاحظوا أنّ ما يقارب من ثلاثة أرباع المصابين بصرع الفص الصدغي وما يقارب ال38% من جميع المرضى، قد سجلوا شعورا بخوضهم بتجارب روحية وميتافيزيقية. وعلى ضوء تلك التجارب، تمّ استخلاص وجود رابط بين الفص الصدغي وظاهرة فرط التدينhyper religiosity.
في برنامجه الشهيرThe Story of God ، تعرض مورغان فريمان لتجربة (خوذة الإله)، وهي التجربة التي أجراها العالِم بيرسنجر، لمحاولة التعرف على وجود أساس بيولوجي أو عصبي للمفاهيم والتجارب الدينية واللاهوتية في دماغ الانسان. ولقد شيّد بيرسنجر تجاربه بناء على ما أثبتته التجارب التي سبقته على مرضى صرع الفص الصدغي، وتحديدا تجارب slater and Beard وخلص إلى نتائج تربط بين التجارب الروحية والفص الصدغي. 7
وهذه التجربة هي من الأساس تقوم على ملاحظات لطبيعة الأعراض التي ذكرها مرضى صرع الفص الصدغي. فقام بيرسنجر باختيار مجموعة من المتطوعين، وتعريض الفص الصدغي لهم، لإشارات مغناطيسية ضعيفة، مما جعل بعضهم بالفعل يشعر بوجود حضور أثيري ( (presenceفي الغرفة. “mystical experiences and altered states”. أمّا عن ماهية هذه القوة أو الحضور الذي شعر المريض بوجوده في الغرفة معه، فهو نابع من معتقداته القبلية، فقد يكون (الله) أو يهوه أو حتى كائنات فضائية بحسب ديانته او معتقداته.
الفكرة الأساسية التي كانت عنده حينها هي أنّ الفص الصدغي يشكّل منطقة مثالية لتكوين التجارب الروحية/الدينية في الانسان. والفرضية التي تمّ تشييدها في أواسط الثمانينيات هي أنّ التجارب الميتافيزيقية والروحية تستحث من قبل أنشطة كهربائية مركزة ومؤقتة في مناطق من الفص الصدغي. وهذه الأنشطة تتأثر بمحيط الفرد، وسياقه الزماني والمكاني، ومعتقداته القبلية المسبقة.
كانت تجربة بيرسنجر قائمة على أساس قطع التواصل الكهربائي بين الفصين الصدغيين. وحيث أنّ هذا التواصل هو المسؤول عن إنتاج شعورنا بأنفسنا وحضورنا، فالحاصل أنّ قطع التواصل هذا يشعرنا بوجود شيء ما، أي بحضور ما مفارق لنا. وقد ولاحَظ أنّ أكثر من ثمانين بالمئة من المشاركين أثبتوا شعورهم بهذا الوجود، وقلة منهم قالت صراحة أنّه كان وجود (الله). وكثيرون ذكروا أنّ ذلك الشعور هو ذات الشعور الذين يشعرون به في أوقات صلواتهم وتأملاتهم. وقال سبينجر في عبارة مضغوطة ما مفاده أنّ (الله) ليس الا عوارض عصبية حادثة. persinger (1987) states, ‘God is simply the name given to a supposed external cause of sensations and sentiments that are, strictly speaking, no more than neurological accidents’ 8
وهنا ينبغي التنبيه أنّه من المثبت طبيا أنّ هناك حوالي 5% من الأشخاص المصابين بمرض الفص الصدغي قد يدخلون فعلا في نوبة اضطراب ذهاني ما بعد النوبة، وهذه قد تكون على شكل مزاج حاد مع أرق، ويعقبها أعراض أكبر ك”التوهم” أو “الهلوسات” الحادة أو حالة الجامود catatonia.
ومعلوم أنّ بعض التوهمات قد تكون في إطار ديني، وقد تبلغ بالإنسان حدا يظن معها أنّ الله يخاطبه أو أنه شخص في غاية الأهمية قد اختاره الله وأنه يحمل رسالة لإنقاذ العالم hyperreligiosity. 9
يبقى أنّ نقول أنّ بعض مرضى صرع الفصّ الصدغي يصابون بما يسمى الهايبركرافيا hypergraphia حيث يصاب المريض برغبة مفرطة بالكتابة تصل لحد الهوس. في هذه الحالة يصاب المريض برغبة وطاقة شديدة، بعد نوبات الصرع، تجعله يندفع للكتابة بشكل هوسي. وممكن أن تكون هذه الكتابات بلغة جمالية رفيعة جدا، وأدبية فائقة الابداع، وأحيانا يندفع إلى الشعر والرسم ومختلف الفنون. 10 وهذا ما جعلهم – بناء على فرضيتهم – يفسرون قدرة الرسول (ص) على كتابة القرآن.
والمثال الشهير الذي يضرب على ذلك هو الروائي الروسي العبقري فيودور دوستويفسكي، المصاب بالصرع، وقدرته الفائقة على إنتاج تلك التحف الروائية الضخمة. 11
نلاحظ في الصورة مثلا (ورقة أصلية من مخطوطة روايته الشياطين) حيث تبدو عليها علامات الكتابة المندفعة، واستغلال كل مساحات الورقة، وعلامات التدين مثلا تجدها في صورة الكنسية، وفي تغيير كلمة رايتشل الى رافائيل. 11
ما علاقة كل ذلك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
لقد جاءت هذه النتائج العلمية بالتوازي لتعزز الفرضية التي تبناها بعض اللادينيين والملحدين، أو الناقدين للاسلام، من أنّ العلامات التي كانت تظهر على نبينا الكريم (ص) أثناء نزول الوحي، لم تكن إلا علامات لمرض صرع الفص الصدغي. وحتى أتجنب الإسهاب المطول في استعراض كل أقوالهم، فقد اخترت ما ذكره (الأخ رشيد) في حلقة خصصها لهذا الموضوع في قناته على اليوتيوب بعنوان “بكل وضوح / الحلقة 57 / وحي أم صرع”، لإثبات زعمه بأنّ النبي (ص) كان مصابا بهذا المرض. 12
وفيما يلي أبرز الشواهد والأدلة التي طرحها هو في حلقته تلك، لإثبات فرضيته:
أولا: اتهام قريش للنبي الكريم (ص) بالجنون كما أثبته القرآن في آيات كثيرة، وربما كانت تلك التهمة نابعة من كونهم -بحسب زعمه- قد رأوا فيه علامات وآثار للمرض، فلم يجدوا تعبيرا أدق وأصح لما يرونه عليه من أعراض إلا وصفه أو التعبير عنه بالجنون. يؤكد ذلك -على حد قوله- ما ورد في بعض التفاسير كتفسير الرازي من أنه كانت تنتابه حالات أشبه بالغشي حين ينزل عليه الوحي، فظنت قريش أنّ ذلك جنونا.
ثانيا: وجود روايات (معتبرة) عند الفريقين، تؤكد أنّه قد وصف الوحي أحيانا بأنّ له صوت كصلصلة الجرس كما في الحديث: “أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول” والحديث بهذه الصيغة صححه مسلم وغيره. وهناك أشباه له بألفاظ مختلفة ومصادر مختلفة.
وهذا الحديث – من وجهة نظره – يؤكد وجود هلوسات سمعية (صلصلة الجرس)، وربما هلوسات بصرية (يرى رجلا متمثلا له). حتى إنّ “سماع” صوت الصلصة – بحسب رشيد الذي نقل شفهيا عن بعض أخصائيين الأعصاب – كان من الأعراض الشائعة التي يسألون مرضاهم المصابين بصرع الفص الصدغي عنها. واللافت هنا وجود بعض الروايات التي تؤكد- بحسب نظرهم – كراهية النبي للجرس، لأنه كان محفز أو trigger لتلك الحالة، كما في الحديث: (الجرس مزامير الشيطان) (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس).
ثالثا: وجود أعراض كثيرة ظهرت على النبي (ص)، تشبه – على حد زعمهم – أعراض مرضى صرع الفص الصدغي. مثلا التعرق الشديد، ما رواه البخاري عن عائشة (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا). وكذلك ما رواه مسلم من نظر أحد الصحابة إليه وهو يأتيه الوحي له صوت يشبه صوت الشخير (فنظرت إليه له غطيط). وقول عمر بن الخطاب كما روي في سنن الترمذي (كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل). وما رواه البخاري عن زيد بن ثابت ما يؤكد وجود تشنج عضلات فخذ النبي (أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي).
وقد روى مسلما أيضا (إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه)، وقد ذكرنا سابقا أنّ الاضطراب المزاجي هو من أعراض المرض، وهذا يعضده اعتزال النبي (ص) لفترات طويلة في حياته، حيث يعتريه الاكتئاب والحزن، فيقرر أن يبقى منعزلا عن الناس. وكذلك ما روي في بعض مصادر الحديث من أنّ الرغبة في الانتحار قد اعترت النبي (ص)، وحيث أنّ المصابين بالصرع أكثر عرضة للتعرض للأفكار الانتحارية، فقد تكون تلك قرينة أخرى. وذكرنا سابقا أنّ التحديق في اتجاه معين دون حركة ودون فقدان الوعي من علامات نوبة الصرع كذلك، ونجد قرينة لذلك – بحسب رأي رشيد- ما روي عن أبي سعيد إلى أن قال (يا رسول الله، أويأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي. قلنا: يوحى إليه).
وأيضا، ما يراه بعض أصحاب هذه النظرية من وجود أعراض للنسيان عند النبي (ص) في بعض تفاصيل حياته، والنسيان قد يحدث في هذا النوع من الصرع، لاسيما إذا كثر عدد النوبات وازدادت حدتها. إضافة إلى ما يعرف من وجود بعض حالات لمرضى صرع الفص الصدغي تعتريهم نوبات غضب أو عنف aggressiveness، وأصحاب هذه الفكرة يزعمون أنّ ذلك شائعا في سيرة النبي محمد (ص).
هذا كان استعراض مختصر وسريع لأبرز الأدلة التي تٌعرض بوصفها إشكالات أو شبهات حول النبي (ص) والوحي، بالرجوع إلى مجموعة من المعطيات التاريخية، والطبية، وكذلك المرتبطة بعلم الأديان العصبي. وفيما يلي الرد على الإشكالية:
الإجابات على الإشكالية
والهدف من الجواب هو الرد على الإشكال بشقيّه، أي أولا إزالة شبهة إصابة النبي (ص) بصرع الفص الصدغي خصوصا، وثانيا، الرد على شبهة أنّ الوحي أو التجربة الدينية هي محض فرط نشاط عصبي في الدماغ.
سأقسم الملاحظات والردود على أربعة أقسام:
أولا: ملاحظات عامة
– إنّ غاية ما تعطينا إياه التجارب والملاحظات التي أقيمت على مرضى صرع الفص الصدغي، هي أنها قد بيّنت وجود عوارض وظواهر عضوية وحسية، للتجربة الروحية. ولكن ما لم تبينه هذه التفاسير، بل ما لا تستطيع بيانه -على الأقل بالمعطيات الحالية – هو عدم وجود أية تفسيرات أخرى، ذات أبعاد مختلفة، للتجربة الروحية وللوحي. فأن تستطيع هذه التجارب رصد نشاطا ما في الدماغ ينتج بسبب دخول المرء تجربة روحية ما، لا يعني إطلاقا عدم وجود بُعد ماورائي لتلك التجربة الروحية. وهذه نقطة في غاية الأهمية، لأنها مرتكز منطقي يجعل الانسان يستخدم كل دليل في الحدود التي يصلح استخدامه فيها، لا في قضايا خارج عن تلك الحدود.
– كل الظواهر التي أكدتها التجارب التي أجريت على مرضى الصرع هي ظواهر وعوارض (بسيطة) وغير مركبة، ولذلك هي غير قادرة على إعطاء تفسيرات مركبة ومعقدة كتفسير الوحي، باعتبار الوحي تجربة روحية عميقة. بمعنى أنّها قد أثبتت لنا وجود نشاط عصبي ما، أو عوارض نفسية وعصبية ما، ولكنّها لم تخبرنا أيّ شيء عن الله أو الروح. فلا يمكن بالتالي الاستنتاج أنّ تلك العوارض وتلك الاحاسيس هي عينها الله أو الروح أو هي عينها التجربة الروحية/الدينية. فالنشاط العصبي لا يخبرنا شيء عن مضمون التجربة ولا يخبرنا أنّ هذه الأنشطة التي ترصدها أجهزة الأشعة هي نفسها محتوى الروح أو الله. وفي هذا الإطار سأورد اقتباس الى دكتور simon dein ذكره في ورقته current advances in neurotheology يذكر فيه هذا المضمون:8
“Overall, we can conclude that neurotheology shows the brain’s involvement in the act of faith but it does not reveal anything meaningful about the content of such experiences, nor does it reveal anything about their cause, or about acts of faith. We can learn something about the association of specific neural responses with certain self-reports but we can conclude nothing about their causation such as the reality of a divine source.”
– التجارب الروحية التي تحدث للناس، بل تجربة الوحي نفسها التي حدثت للنبي الكريم (ص)، لم تكن إطلاقا تحدث جميعها في أجواء مشابهة لتلك التي خلقتها التجارب العلمية. فتجربة بيرسنجر قد وضعت الأشخاص في غرف هادئة ومظلمة، ووفرت ظروف الراحة، ثم عرّضت دماغ المريض للحقل المغناطيسي، وهذه شروط من المستحيل تحققها في كل من يخوض تجربة شبيهة بالوحي، بل الذي رواه التاريخ – إن صح – عن النبي (ص) هو أنه كان في أحوال صعبة ومضطربة أثناء نزول كثير من الوحي، ولم يكن كل الوحي ينزل عليه في ذات الظروف. فقد نزل عليه (ص) الوحي وهو في الحرب، والسلم، والمسجد، والبيت، وغيرها. وقد نزل عليه الوحي منفردا ونزل عليه وهو بين جماعة. فلا يمكن الاعتماد على هذه التجارب التي تخضع لشروط صارمة في تجهيز الأجواء التي يتم وضع الأشخاص فيها، وبين حياة النبي (ص) التي امتد فيها الوحي ل23 عام، وحصل فيها من التقلبات الشيء الكثير. بل المؤكد أنّها – كأي تجربة تاريخية لأي نبي أو مصلح– من الطبيعي أن يحصل فيها ما ليس في الحسبان، بسبب تعدد خصوم الدعوة/النبي وكثرة الأعداء وخططهم، وتغير الظروف، وتنوع مشاكل. ولكن الذي رأيناه أنّ الوحي قد تكيّف مع كل ذلك، وأمده (ص) بالإرشاد في كل الظروف والاحوال، وهذا السيناريو لا يمكن تحققه في حالات المصابين بالذهان المرتبط بمرضى بالصرع.
– إضافة إلى ذلك، فإنّ الوحي ليس مقتصر على الأحاسيس والوجدانيات، ففي تجربة بيرسنجر مثلا غاية ما أثبتته هي أحاسيس يشعر بها الشخص، بينما في حالة الوحي النبوي، هناك جوانب عقلية ومعرفية تنتج عن الوحي، وهذا ما لا يمكن تفسيره بهذه الفرضية. فأساسا، ليست التجارب الروحية أو الدينية كلها شبيهة بالذي وصفه بيرسنجر، أي أنّ الشخص يشعر بوجود (حضور) ما. فالتجارب الروحية تتفاوت بشكل كبير، ولم يعبّر القرآن أو تاريخ النبي القطعي (ص) بأنّ الوحي كان فقط شعورا بوجود (حضور) حوله (ص). فالتفسير العصبي للوحي والتجربة الدينية، يقدّم تفسيرا في غاية الاختزالية. ومعنى ذلك أنّه أولا يجعل التجارب الدينية محض أحاسيس وجدانية، بل أحاسيس من نوع واحد، ثمّ يزعم بأنّ هناك نشاطا عصبيا مرتبطا بتلك الحالة الوجدانية، ثم يخلص أنّ هذا التفسير التام لكل التجربة الروحية. بينما نحن نعرف أنّ الوحي ليس فقط وجدانيات وحالات نفسية وعاطفية، بل أيضا وعيا ومعرفة موضوعية، وهناك مواضيع خارجية غير عاطفية يتم إخبار النبي (ص) بها، من التي لا تشتمل على الوجدانيات بشكل صرف، وبالتالي سيصعب على التفسير الاختزالي تفسيرها. وبالتالي فإنّ التفسير العصبي هذا حتى ليس ظاهراتيا بالكامل، بل تفسيرا تجريبيا. فهذا التفسير يأتي بإنسان ما، ويجري تجربة على دماغه، ويربطها بأحاسيس معينة. بينما لو أردت وصف الظاهرة التي أمامك لأصبح ملزما إليك وصفها من كل نواحيها بما فيه النواحي العقلية والموضوعية.
– في الوحي النبوي، يوجد إبداع خلّاق، بمعنى أنّ هناك إبداع لنظريات معرفية جديدة، وتصورات جديدة عن الله تعالى وعن العالم، وعن علاقة الانسان بالإنسان، بل يوجد حقل دلالي لغوي جديد بالكامل، وشبكة مفاهيمية جديدة وكبيرة، وهذه كلها مظاهر لا يمكن لأي حالة عصبية/نفسية تفسيرها. فالقرآن جاء بمفاهيم جديدة على مستوى نظرة الانسان لله، وأسماءه، وللخلق، وللعلوم الإنسانية، والقوانين الاجتماعية، وأعطى مسميات وعلاقات بين مختلف الفئات في المجتمع (مؤمنين/منافقين/كافرين الخ)، وهذا لا يمكن تفسيره كله بالأحاسيس الروحية التي ادعت المختبرات أنها رصدت آثارها في أدمغة الناس، فليس كل هذه المفاهيم متعلقة بالأحاسيس والوجدانيات.
– حتى على فرض أنّنا استطعنا رصد نشاط عصبي عند دخول انسان في تجربة روحية، فهذا لا يرينا من أين جاءت هذه التجربة، ولا يخبرنا عن مصدرها شيء. بمعنى أنّ التجارب العلمية التي أقاموها لا تستطيع أن تخبرنا أن محتوى/مضمون التجربة هو نتيجة مباشرة لنشاط عصبي معين، بحيث أننا لو استنسخنا ذلك في أشخاص آخرين لحصلنا على ذات المعرفة، بل تخبرنا (فقط) بأنّ هناك نشاطا عصبيا يحدث بموازاة تلك التجربة الروحية. “Overall, we can conclude that neurotheology shows the brain’s involvement in the act of faith, but it does not reveal anything meaningful about the content of such experiences, nor does it reveal anything about their cause, or about acts of faith.” 8
– وهناك ملاحظة أخرى مهمة جدا. وهي أنه كما يستدل بعض اللادينيين على أنّ التجربة الدينية هي محض تجربة مادية بلحاظ وجود نشاط عضوي عصبي في دماغ الانسان أثناء دخوله في تجربة روحية، فيمكن لنا بالمثل أن نقول أنّ الله سبحانه أعطى الانسان الأدوات اللازمة، وهيّأ له دماغا يؤهله لكي يتفاعل معه سبحانه. ومعنى ذلك أنّه كما تتفاعل الروح (وهي من الغيب) مع الله تعالى، وتتصل به، فالدماغ (مادة) قد أوجد الله تعالى فيه الأهلية والقابلية ليتفاعل معه كذلك، ليتكامل تفاعل الروح مع تفاعل الدماغ. ولا يوجد دليل ينقض هذه الفرضية. فإذا أثبتنا وجود الله سبحانه وإمكانية الاتصال به، تصبح هذه الفرضية هي المرجحة أصلا. ومن هذا المنظور، يصبح حتى النشاط العصبي هو مظهر من مظاهر تواصل الانسان مع الغيب والماورائيات.
ثانيا: ملاحظات نقدية على التجارب الداعمة لنظرية ارتباط الوحي بالصرع
وهنا سأسجل ملاحظات على تجارب slatar and beard، وكذلك تجارب persinger التي زُعم بموجبها أنّ هناك ارتباط بين التجارب الدينية بالفص الصدغي. كثير من الملاحظات النقدية المنهجية في هذا القسم، قد وجهها باحثين متخصصين في المجال نفسه، ونجد كثير منها موجود في مقال بعنوان neuroscience for the soul 13
– لاحظ باحثون أنّ هناك مشاكل منهجية كبيرة في تجارب slatar and beard، أولاها أنّه قد ذكر أنّ 38% من مرضى صرع الفص الصدغي في تجربته قد خاضوا تجربة روحية، وبنى على ذلك نتيجته بوجود رابط بين الشيئين. ولكنه لم يلاحظ أنّ هذه هي ذات النسبة من عامة الناس الذين تحصل لهم تجارب روحية، بل أنّ نسبة العامة الذين حصلت معهم تجارب روحية، قد فاقت في بعض الدراسات نسبة ال38%، لتصل إلى 49%. فربما صحّ أن نقول بالقياس لهذه التجارب الأخيرة، أنّ الصرع أصلا يقلل من احتمالية حصول تجربة روحية. 1
– الخلل الثاني في تجارب slatar and beard هل طريقة انتقاء الحالات التي أشركوها في التجارب. فأولا: هناك تحيّز مسبّق لاختيار المرضى الغير اعتيادين أي الذين لديهم أعراض غريبة، من عموم مرضى الصرع. إضافة إلى أنّ النسبة من مرضى صرع الفص الصدغي الذين سجلوا دخولهم في تجارب روحية (ثلاثة أرباعهم) هي ذات نسبة مرضى صرع الفص الصدغي من مجموع المرضى المشاركين في التجربة، وهذا يؤشر مرة أخرى أنّ النتائج لا تخلص لنتائج قطعية بشيء. 13
– بمراجعة التاريخ المرضي للمرضى، فإنّه لم يلحظ وجود ارتباط مباشر بين فرط التديّن في المرضى، وبين تاريخهم المرضي أي بداية المرض وتطوره وأعراضه. 13
– ربما يجدر التساؤل هنا، بالنظر للمرضى الذي تعمد الباحثون اختيارهم، كم يا ترى عدد مرضى صرع الفص الصدغي الذين لا تظهر عليهم أساسا أعراض تدين أو تجارب روحية، لم يتم اختيارهم للتجارب، فقط لأنّ اعراضهم جدا كلاسيكية، ولا يوجد ما يجذب الاهتمام فيها؟ فالذي حصل أنهم اختاروا مرضى بهم صرع مع وجود “تدين”، وثبتوا الروابط، ثم عمموا ذلك وجعلوها قاعدة عامة. وهذا التعميم بالتالي خطأ واضح.
– قام أحد الباحثين بنشر دراسة تطرقت لحالات ستة مرضى مصابين بصرع الفص الصدغي، ممن حصل معهم انقلابا دينيا/عقائديا مفاجئا في حياتهم.15 ولكن في 17 دراسة لاحقة، لم تسجل هذه الملازمة، وأقرّ الباحثون على إثرها أنّ الانقلابات الدينية الناتجة عن الصرع ليست شيئا شائعا إطلاقا كما زُعم ابتداءاً. وهذه قرينة أخرى على التحيز في انتقاء الحالات في التجارب الأساسية.13
– لقد حاول علماء وباحثون كثيرون بعد ذلك عمل دراسات مستفيضة في الموضوع، لإيجاد ترابط بين الصرع وبين فرط التدين. وكل النتائج جاءت على خلاف ما زعمت الدراسات الأولى تلك. ففي دراسات لمئات الحالات لمرضى صرع الفص الصدغي، لاحظوا أنّ التجارب الروحية تحدث في نسب بسيطة تتراوح بين 1% إلى 2.3% وهي نسب أكثر بقليل من التجارب الروحية في عامة الناس، التي قد تتجاوز ال50% في بعض المجتمعات. 13
– في تجربة أخرى أجريت على 137 من مرضى صرع الفص الصدغي، لاحظوا وجود 3 حالات فقط منهم قد خاضوا تجارب روحية (2.2%)، والملفت أنّهم كلهم كانوا مصابين بالذهان كذلك، والأكثر أهمية، أنّ الثلاثة كانوا يعيشون في أجواء متأثرة بشكل مباشر وقوي بأمهاتهم أو أمهات أزواجهم المتدينين، وهذا التدين من جهة الأم، وكذلك البيئة المتدينة، قد يكون بسبب تجاربهم الروحية، لا كونهم مرضى بالصرع. وهذا يمكن تفسيره بنظرية العزو. 16
– أمّا بالنسبة لتجربة بيرسنجر، فمن جهة فإنه هو نفسه قد بناها من الأساس على دراسات سبقته كانت نتائجها مضطربة من حيث قدرتها على تقديم نتائج قاطعة وواضحة، تثبت العلاقة بين صرع الفص الصدغي والتجارب الروحية. ومن جهة أخرى، فإنّها فشلت في إثبات نفسها عندما حاول آخرين إعادة إنتاج ذات النتائج في دراسات لاحقة عليها، رغم أنّ الدراسات قد استعانت بذات الأدوات المستخدمة في تجارب بيرسنجر. فقد فشلت التجارب اللاحقة في إنتاج الشعور بوجود “حضور” كمثل ذلك الشعور الذي أحس به الذين خضعوا لتجربة خوذة الإله لبيرسنجر. 13
– والجدير بالذكر أنّ تجربة بيرسنجر نفسها قد عانت من تحيّزات عند القيام بها، فهي لم تكن (مزدوجة التعمية). فالمشاركين قد تحيزوا منذ بداية التجربة من خلال اطلاعهم على طبيعة النتائج المحتملة أو المتوقع حدوثها في التجربة.وعموما أغلب التجارب كانت تفتقر لوجود مجموعة مرجعية (control group) يتم مقارنة المجموعة الخاضعة للاختبار معها. 14
– والأكثر من ذلك، أنّ الحقل المغناطيسي الذي تعرض له مرضى تجربة بيرسنجر، بحسب ما أثبتته دراسات لاحقة، لم يكن قويا لاختراق الخوذة، فضلا عن أن يستطيع إحداث أثر على نشاط الفص الصدغي، مما يشككنا في صدقية وواقعية النتائج، وأنّها قد تكون ببساطة ناتجة عن توقع المريض وتحيزه المسبق لحصولها.13
فإذا كانت هذه التجارب العلمية – كما رأينا- ضعيفة في إثبات حتى التجربة الروحية والدينية، فكيف تستطيع الصمود في إثبات ظاهرة مركبة ومعقدة كالوحي.
إذن نخلص من هذا القسم من الملاحظات أنّ التجارب العلمية قاصرة جدا، وعاجزة في إثبات مدعى الذين زعموا أنّ الوحي والتجربة الدينية هي نتاج نشاط عصبي في الدماغ أو صرع الفص الصدغي.
ثالثا: ملاحظات طبية
– الطبيب دائما يراجع تشخصيته، حتى خلال مسيرته مع مريضه، ويعيد النظر في استنتاجاته، ويعيد طرح الأسئلة على مريضه، ويقوم بفحوصات جديدة، لكي يتجنب التحيز لتشخيصِ أقامه نتيجة انطباعه الاولي. فما بالك إذا كان التشخيص بأثر رجعي، لقرون خلت، وبالاستناد إلى روايات ظنية، وتجارب غير قطعية. بل كيف يتمّ تجاهل مئات القرائن الأخرى المرتبط بالنبي محمد (ص)، والاكتفاء بهذه القرائن الظنية، والمضطربة من حيث الموثوقية ومن حيث دقتها في إعطاء نتيجة حاسمة؟!
– الهلاوس (بالطريقة التي يشيد بها أصحاب هذه الفرضية فرضيتهم) في صرع الفص الصدغي ليست عرضا شائعا من الأساس17. وإذا حصلت، فهي تكون بدائية وسريعة، كرؤية “ومضات ضوء”. ولكن المؤكد أنّها بالتأكيد ليست بالتعقيد الموصوف في التجارب الدينية الرفيعة. فظاهرة الوحي ظاهرة مركبة جدا، والنتائج المتربة عليها كبيرة، وواقعية، ولا يمكن تفسيرها بهذا العَرَض الطارئ والسريع الذي يحصل في الندرة من مرضى صرع الفص الصدغي.
– يلحظ في مرض صرع الفص الصدغي أنّ تكرار النوبات واشتدادها، يمكن أن يؤدي لشيء من النسيان واختلال الذاكرة، ولكننا نلاحظ أنّه في حالة النبي (ص) لم يكن يحصل شيء من ذلك، بل كانت ذاكرته ثابتة وراسخة طوال الوقت، لاسيما إذا سلّمنا جدلا بفرضيتهم من أنّ هذا المرض كان مزامنا له طوال فترة الوحي (23 سنة)، وربما قبلها، وكانت تأتيه النوبات بهذا الشكل الكثير والمتكرر. إضافة إلى أنّ القرآن كنص هو نص مترابط ومنسجم، ومتشابه من حيث المحتوى واللغة والبيان لطوال 23 سنة، إضافة لتنوع أنواع المعارف والعلوم التي فيه. وكل ذلك لا ينم عن حصول شيء من النسيان لصاحبه. ولم يؤثر قط عن الرسول (ص) نسيان ما تلقاه من الوحي، بل حافظ عليه، وحفظه، وألزم أصحابه بحفظه، وتأكد باستمرار من موثوقية حفظهم.
– إضافة لذلك فإنّ كثيرا من أعراض صرع الفص الصدغي المثبتة طبيا، والشائع وجودها جداً عن غالبية مرضى صرع الفص الصدغي، لم يثبت وجودها عن النبي (ص). وما قاله الأخ رشيد مثلا من أنّ صوت الصلصلة شائع عند المرضى هؤلاء، هو ادعاء يدعي أنّ أطباء أعصاب قالوه له، ولكن لا يوجد عنده دليل علمي ليثبته. أما الشعور بالغثيان والتعرق، فهذه أعراض جدا عامة وتحدث في مئات الامراض والأسباب المختلفة، ولا يمكن التعويل عليها إطلاقا حتى كقرائن على إصابة أحد بمرض صرع الفص الصدغي. أما التشنج في الرجل الذي أشار له الأخ رشيد فلا دلالة له على شيء إطلاقا، إذ لا دليل تاريخي عليه أصلا. فالرواية التي يذكرها تشير إلى أنّ النبي (ص) كان يشعر بثقل في رجلية عند نزول بعض الوحي، ولكن الأخ رشيد قد جعل هذا الثقل مساويا للتشنج، لكي يؤكد فرضيته. لذلك فنلاحظ أنّ أمثال رشيد وغيره، تجاهلوا الأعراض الشائعة للمرض، وتمسكوا بالأعراض النادرة، وأعراض أخرى عامة جدا لا تعطي دلالة على شيء، ثم قارنوها ببعض الاخبار الظنية، ليستنتجوا استنتاجا علميا ضخما كإصابة النبي (ص) بهذا المرض. وكل من له خبرة ضئيلة في الحقل الطبي يعرف كم أنّ هذا خطأ فاحش في آلية “التشخيص”.
رابعا: ملاحظات تاريخية
هناك مجموعة من النقاط في غاية الأهمية أشار لها الشيخ حيدر حب الله في سلسلته عن الوحي والتجربة الدينيةـ ضمن رده على النظرية العصبية، سأسرد منها أربعة نقاط بشكل موجز تحت هذه النقطة:
– في الواقع فإنّ ما قام به أصحاب النظرية العصبية في تفسير الوحي، هو مجرد الاتيان ببعض الشواهد التاريخية، ومقارنتها ببعض العوارض الطبية لمرضى صرع الفص الصدغي، ثمّ تم اعتماد تلك التشابهات العرضية لتشييد نظرية ضخمة بحجم: الوحي النازل على النبي (ص) هي أعراض لمرض صرع الفص الصدغي، هو قفزة منهجية غير مبررة وغير علمية.18
– من ناحية تاريخية، هم اعتمدوا بعض النصوص الظنية التي حكت عن أوضاع النبي الأكرم (ص) وأحواله أثناء نزول الوحي، إلا أنهم تجاهلوا طائفة أخرى من النصوص الحاكية عن أحوال وأوضاع لأخرى كان قد نزل فيها الوحي كذلك، بحسب السردية التاريخية، ولم تكن قد حصلت للنبي (ص) معها أعراض كتلك التي حصلت في الطائفة الأولى. 18
– لو فعلا ثبتنا بأنّ الأحوال التي حصلت للنبي (ص) كانت أعراض للمرض، فمن أين جاء بالمعرفة التي جاء بها؟ فالقرآن مليء بالمعارف الكونية والتاريخية والحضارية، وهذا لا يمكن تفسيره بمجرد التجربة الروحية.18
– الهايبركرافيا التي أشار لها الطب، وربطها بمرض صرع الفص الصدغي، يمكن أن تنتج سيلانا أدبيا وجماليا، ولكنها لا يمكن أن تنتج إضافات معرفية جديدة. فغاية ما تفعله أنها تعطي قوة وطاقة إبداعية لما هو موجود عند الإنسان أصلا. فأنت – بالهايبراكرافيا – تستطيع تفسير الطاقة، لا تفسير المعرفة الجديدة، وأنت بها تستطيع أن تخلق طاقة جديدة واندفاعا، لا أن تخلق خبرة جديدة. 18
– ملاحظات الأخ رشيد التي ذكرناها في الأعلى يمكن بيسر أن نوصمها بأنها متحيزة، وكثير منها قد أجابتها ملاحظات الشيخ حب الله، ولكن يمكن أن أضيف على حيدر حب الله التالي: أنّ بعض أفكار رشيد قد يكون منشأها (إرادة الاعتقاد). فهو قد أقام فرضية أنّ الوحي كان عبارة عن أعراض صرع، ومن بعدها بدأ يفسّر كل أحاديث النبي (ص) وأقواله وسيرته بأثر رجعي. فكلام النبي (ص) وحديثه عن الجرس أصبح في نظره ناتج عن كراهية صوت الجرس من النبي (ص) باعتبار الجرس محفزا لنوبة الصرع. هكذا بلا دليل واضح وإنما فقط لإثبات فكرة ما، يبحث عن أي شاردة أو واردة يمكن إقحامها في هذا الرابط بين الوحي وبين المرض. لذلك فإنّ رشيد قد بدأ يفسر التاريخ النبوي بأكمله بشكل متحيز لإثبات فرضيته، وبالتالي فهو سيتجاهل كل الأسباب الأخرى التي يمكن أن تفسر قول النبي (ص) في هذه المسألة أو تلك، ويصرّ على ما يلائم تفسيره.
والتحيّز هذا فاقع جدا في بقية كلام رشيد. فصار مثلا اعتزال النبي (ص) في الغار دليلا على الاضطراب المزاجي. هكذا يفسّر بشكل المتحيز كل شيء من منطلق تثبيت فرضيته. بينما يمكن لأي مؤمن أن يفهم اعتزال النبي (ص) بفهم روحه التوّاقة للهدى والحقيقة، أو أنسه بالوحدة، أو باستحياشه واغترابه من مجتمع تسود فيه الأخطاء واللعب والقوانين غير الإنسانية وغير القيمية. ومثل هذا التحيز ينطبق على تفسيره لصمت النبي (ص) قبل أن يجيب على أحد الصحابة كما جاء في أحد الأحاديث، وجعل ذلك هو عين التحديق الذي يحصل عند بعض مرضى الصرع عند النوبات. أما عن العنف aggressiveness فهذه سيكون نقاشها والرد عليها في مقال آخر.
الخلاصة
عرفنا من كل ما سبق، أنّ ادعاء بعض اللادينيين من كون الوحي النبوي أو التجربة الدينية عموما، هي نتيجة لبعض أنماط النشاط العصبي في دماغ الإنسان، هو إدعاء ليس عليه دليل، ولا يمكن الاعتماد عليه إطلاقا. فالوحي تجربة عميقة جدا، واستثنائية، وجبّارة، وتترتب عليها آثار روحية ومعرفية واجتماعية ضخمة جداً، ومن المحال اختزال كل ذلك في بعض الأحاسيس التي يسجلها الانسان عند حصول تغيرات في النشاط العصبي لدماغه.
صَلِّ اللّهُمَّ عَلى الدَّلِيلِ إِلَيْكَ فِي اللَّيْلِ الاَلْيَلِ، وَالماسِكِ مِنْ أَسْبابِكَ بِحَبْلِ الشَّرَفِ الاَطْوَلِ، والنَّاصِعِ الحَسَبِ فِي ذِرْوَةِ الكاهِلِ الاَعْبَلِ،وَالثَّابِتِ القَدَمِ عَلى زَحالِيفِها فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ، وَعَلى آلِهِ الاَخْيارِ المُصْطَفِينَ الاَبْرارِ
المصادر
1- Author links open overlay panelMichael Trimble a et al. (2006) An investigation of religiosity and the gastaut–geschwind syndrome in patients with temporal lobe epilepsy, Epilepsy & Behavior. Available at: https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S1525505006001855 (Accessed: 28 June 2023).
2- René J. Muller, P. (no date) Neurotheology: Are we hardwired for god?, Psychiatric Times. Available at: https://www.psychiatrictimes.com/view/neurotheology-are-we-hardwired-god (Accessed: 28 June 2023).
3- Hagerty, B.B. (2009) The god chemical: Brain chemistry and mysticism, NPR. Available at: https://www.npr.org/2009/05/18/104240746/the-god-chemical-brain-chemistry-and-mysticism (Accessed: 28 June 2023).
4- ABC Radio National (2014) Finding god in a seizure: The link between Temporal Lobe Epilepsy and mysticism, ABC Radio National. Available at: https://www.abc.net.au/radionational/archived/encounter/the-link-between-temporal-lobe-epilepsy-and-mysticism/5956982 (Accessed: 28 June 2023).
5- Rosentiel, T. (2008) What brain science tells us about religious belief, Pew Research Center. Available at: https://www.pewresearch.org/2008/05/05/what-brain-science-tells-us-about-religious-belief/ (Accessed: 28 June 2023).
6- Slater, E., Beard, A. W. & Clitheroe, E. (1963) The schizophrenia-like psychoses of epilepsy. British Journal of Psychiatry, 109, 95–105.
7- Religious and mystical experiences persinger – demenzemedicinagenerale.net. Available at: https://www.demenzemedicinagenerale.net/pdf/Religious_and_mystical_experiences_Persinger.pdf (Accessed: 27 June 2023).
8- Dein, S. (n.d.). Current Advances in Neurotheology.
[online] Available at:
https://www.rcpsych.ac.uk/docs/default-source/members/sigs/spirituality-spsig/spirituality-special-interest-group-publications-simon-dein-recent-advances-in-neurotheology.pdf?sfvrsn=ce8e797b_2
[Accessed 27 Jun. 2023].
9- Inside my manic mind: Delusions and hyper-religiosity (no date) Psychology Today. Available at: https://www.psychologytoday.com/gb/blog/night-sweats-and-delusions-grandeur/202207/inside-my-manic-mind-delusions-and-hyper-religiosity (Accessed: 28 June 2023).
10- Hypergraphia: A neglected sign in neurology? (no date) Psychology Today. Available at: https://www.psychologytoday.com/gb/blog/brainspotting/202201/hypergraphia-neglected-sign-in-neurology (Accessed: 28 June 2023).
11- Author links open overlay panelChristian R. Baumann a et al. (2005) Did Fyodor Mikhailovich Dostoevsky suffer from Mesial Temporal Lobe Epilepsy?, Seizure. Available at: https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S105913110500066X (Accessed: 28 June 2023).
12- بكل وضوح | الحلقة 57 | وحي أم صرع (2020) YouTube. Available at: https://www.youtube.com/watch?v=DHSMbUQgU54&t=368s (Accessed: 28 June 2023).
13- Neuroscience for the soul (2012) BPS. Available at: https://www.bps.org.uk/psychologist/neuroscience-soul (Accessed: 28 June 2023).
14- Scholar: Persinger (no date) PHILOSOPHY DUNGEON. Available at: https://philosophydungeon.weebly.com/scholar-persinger.html (Accessed: 28 June 2023).
15- [pdf] sudden religious conversions in temporal lobe epilepsy | semantic … Available at: https://www.semanticscholar.org/paper/Sudden-religious-conversions-in-temporal-lobe-Dewhurst-Beard/6836ab27dfd1ca3db70dba05bc9b90d99bb6853f (Accessed: 27 June 2023).
16- T;, O.A. (no date) Religious experiences in epileptic patients with a focus on ictus-related episodes, Psychiatry and clinical neurosciences. Available at: https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/9681585/ (Accessed: 28 June 2023).
17- JR;, H. (no date) Did all those famous people really have epilepsy?, Epilepsy & behavior : E&B. Available at: https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/15710295/ (Accessed: 28 June 2023).
18- Hobbollah , H. (2021). الوحي والتجربة الدينيّة | تصنيف المحاضرات |. [online] Hobbollah.com. Available at: https://hobbollah.com/mohazerat_category/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ad%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ac%d8%b1%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%91%d8%a9/ [Accessed 27 Jun. 2023].