انتقال الدين من الثورة إلى المؤسسة .. هل يبقى الإيمان؟

من الطبيعي أن تتأثر حركة الاديان، بل كل الدعوات الإصلاحية، بعامل الزمن، وما يلازمه في تغيّرات في النفوس والمجتمعات. والأديان تنتقل بالتدريج، من طور “الثورة” الى طور “المدرسة والمؤسسة”، مع تقادم الزمن. فالثورات بطبيعة الحال ليست ذات طبيعة مستدامة، بمعنى أنّ المجتمع الذي تحدث فيه تلك الثورة سواء كانت ثورة دينية أو غيرها، لا يستطيع أن يعيش في حالة ثورية دائمة. بل لو فعل ذلك، فالثورة حينها إمّا أن تقوم بابتلاع نفسها لتتفكك من الداخل أو تتلاشى كليا وتذوب ليعود النمط القديم بفرض نفسه على المجتمع. لذلك تضطر الثورة لاختلاق المؤسسة النظامية، وذلك في سعيها لكي تحافظ على مخرجاتها.
لكنّ الخطورة هنا هو أنّ العمل المؤسسي يختلف تماما عن العمل الثوري، وإنّ مقوّمات من يدير المؤسسة تختلف عن مقوّمات من يحرّك عجلة الثورة، وإنّ المؤسسة – حيث إنها تدوم وتمتد في الزمان بطبيعة الحال – تأتي ب”أجيال” جديدة متعاقبة لم تشهد تلك الثورة ولم تشهد روحها الأولى، ولم تعش حرارة أجواءها ومبادئها.
هذه الجدلية شبه حتمية، وهي السبب في تكلّس الحرارة الأولى للإيمان. فمع الوقت، ومع قدوم تلك الأجيال الجديدة، تتحوّل تلك الحرارة وتلك الحماسة الثورية وذلك الايمان الملتهب بمبادئ الدين الجديد أو الثورة الدينية الجديدة، الى “موضوع خارجي”، بمعنى أنّ “الايمان” يصبح (موضوعا) خارجيا، وفي الغالب موضوعا (جماعيا)، تتلقاه الجماعات والأجيال الجديدة في صيغ معلّبة جاهزة بكل ما فيه، وتتبناه هكذا بضربة واحدة.
هذا التحوّل، يفرض تحدياته المباشرة على مفهوم “الإيمان” نفسه، فإذا كان الملتحقين بالثورة الدينية في نشأتها الأولى أفراد مؤمنين بشكل ذاتي، دفعتهم إرادتهم الشخصية لتبنّي “الإيمان” كخيار فردي، فما الذي يدفع الأجيال الجديدة للخيار ذاته، وهي ترث الدين مكتملا في قالب جاهز، وتتبناه – غالبا – في صيغته الوراثية المؤسساتية لا صيغته الثورية؟ هل يوجد معنى “للإيمان” حينئذ؟ وهذه الفردية الإيمانية متجذرة في فلسفة كيركغارد للحد الذي يكاد يرى فيه عدم إمكانية بناء صيغة جماعية للدين، فالإيمان “فعل وجودي فردي، وليس إجراءات إنسانية تقوم بها الجماعة لإثبات وجود الله عبر الأدلة الطقوسية والإيمانية”.
ومع ذلك، من البديهي جدا ألّا يقوم كل جيل بثورة جديدة، وألّا يأتي كل جيل بدين جديد، لاسيما وأنّ دين الاسلام مثلا يقدّم نفسه كبديل (أبدي) للإنسان. بمعنى أنّ الإسلام يخبرنا بنفسه أنّه خيار صالح لكل الأجيال المتعاقبة والمتلاحقة.
طبعا هذا الإشكال لا يجد صدى عند الجماعات التي لا تراه أصلا إشكالا أو تحديا، وتعتقد أنّ الإيمان هو محض مقولات عقائدية يتبناها الفرد المنتمي إلى “الدين” فيتسمى مؤمنا لكونه منتميا للجماعة التي يطلق عليها عرفا “جماعة المؤمنين”.
ولكنه إشكال يبرز بعمق لدى الانسان الذي يرى أنّ الإيمان ليس مساويا لتبني مقولات عقائدية، وليس إرثا جاهزا يخضع لمنطق العيش في إطار جمعي ومؤسساتي. هذا الإنسان تحديدا يقف بين هذين القطبين، قطب حرارة الايمان الثوري الأول النابع من التفاعل الذاتي مع الإيمان بوصفه “قضية وجودية فردية”، وقطب ضرورة وجود مؤسسة تحافظ على الإطار الكلي للدين، وضرورة انتماءه كذلك لهذه المؤسسة الجماعية.
يصبح هذا الإنسان أمام هذا التحدي الجوهري هو المسؤول عن صون ذلك الايمان بحيث يضمن من جهة وجود حرارته وأصالته أي العنصر الذاتي فيه، ومن جهة أخرى عليه أن يعمل في المؤسسة هذه دون أن تذوب فرديته ليصبح بعدئذ رقما ثم يتحلل إيمانه الى حالة جماعية محضة. هذا التوازن يمنح الانسان الحرية والفرادة، ويصون له إيمانه الذاتي حتى مع بقاءه ضمن الجماعة.
لعل تجربة الفيلسوف الروسي العبقري نيقولاي برديائف مفيدة في هذا الصدد. فهو بفلسفته الوجودية المسيحية المؤمنة ينفخ الروح في إيمانه المسيحي، ويظهر وكأنه فردا واقفا بنفسه في إيمانه بالمسيح، وهو (بذاته) يخوض تجربة الايمان بحرية ذاتية، ولكنه في الوقت نفسه هو جزء من الجسم المسيحي والهيكل الكلي للدين، فهو منتميا للدين الذي هو في أحد أوجهه مؤسسة جماعية. وهو حتى وإن كان ناقدا للهيكل الجماعي وللمؤسسة، فهو بإيمانه الفردي منتميا للدين الذي دعا له المسيح عليه السلام. وبرديائف يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنّ فلسفة الايمان لا يمكن أن تُبتنى على غير (الحرية الذاتية) بوصف هذه الحرية المناخ الوحيد الذي نستطيع أن نشيّد فيه “الإيمان”، ولقد قال “وكان يحرّكني اعتقاد أساسي ألا وهو أنّ الله حاضر حضورا حقيقي وفاعل في الحرية وحدها”. لذلك لا معنى لقولنا أنّ الله حاضر حضورا حقيقيا في المنظومات الدينية الجماعية الوراثية، ما لم يكل هؤلاء الأفراد المنتمين للجماعة أفرادا مستقلين في تجربتهم الإيمانية.
وبالتالي فالتحدي الذي يواجه “المؤمن” اليوم وهو يعيش منتميا للجماعة هو في كيفية الحفاظ على استقلالية “إيمانه” باعتباره موقفا ذاتيا/فرديا، ثم يكون في الوقت ذاته مساهما في تطور الجماعة المؤمنة بحكم انتماءه لها، بل فاعلا ونشطا ومندفعا بإيجابية في خدمة كل السياقات الجماعية التي يكرّس الدين ضرورتها في حياة “إيمان” الأفراد؟ لا يوجد جواب مدرسي وأكاديمي محدد على هذا التساؤل، لأنّ الجواب سيعود في آخر المطاف إلى تجربة كل فرد، وإلى قدرة كل فرد على تقييم حقيقة نفسه وإيمانه، بعيد عن الادعاءات العريضة باستقلاليته، تلك الادعاءات التي يستطيع أن يدعيها كل إنسان مؤمن اليوم، ولكنه قطعا سؤالا جوهريا ينبغي على الإنسان أن يكرّس له مساحة كبيرة من التأمل والمراجعة والتصحيح.

Scroll to Top