أفكار هذه المقالة مأخوذة من سلسلة سورة الفيل، لجمعية التجديد، ضمن برنامجها “للتي هي أقوم” تقديم الأستاذ جلال القصّاب.
لماذا سورة الفيل مرتبطة بسورة قريش؟ الفيل هو الحيوان “الأليف” المسخّر، وكان هو القوة التي استخدمها أبرهة للاعتداء على المقدّس (البيت الحرام)، وكان مثيله (وإسقاطه الرسالي) في زمن التنزيل هو “الإيلاف”/أحلاف قريش، وهي القوة التي استخدمتها قريش للاعتداء على المقدّس (النبي ص ودعوته الجديدة). فالفيل تاريخيا يوازي الإيلاف رساليا.
لقد لجأ عبد المطلب وأهل مكة الى الجبال المحيطة بمكة حين حصل اعتداء أبرهة على مكة ولجأ أبو طالب مع النبي (ص) وبقية بني هاشم كذلك إلى (شعب أبي طالب) حين ضاق عليهم الحصار من قريش. ولقد تضمنتا سورتا قريش والفيل حلّاً للنبي (ص) بأنّه يحتاج لتشكيل تحالفات (إيلاف) جديدة قبال تحالفات قريش، فذلك مصدر قوة له.
———-
إنّ عبارة “كيدهم في تضليل” عبارة تكشف مآلالت من يستخدم المقدس في مشارع التضليل.
لقد كان الكيد الأول لأصحاب الفيل هو توظيف (المقدس) في العدوان وفي مآرب شخصية وسياسية. فقد برّر أبرهة الحبشي حملته ضد الكعبة، بزعم أن أتباعها قد هاجموا (الكنيسة المقدسة)، وهو الآن يدافع عنها أي أنّه يدافع عن القداسة. “إنّ الأسوأ من اختلاق الذرائع للعدوان على الآخر، هو الادعاء أنّ الله هو من أمر بذلك.”
والله سبحانه أبطل دعواه، ووقف مع بيته الحقيقي، ضد منتحلي القداسة الزائفين، ممن يبررون عدوانهم على الآخرين بحجة الدفاع عن الدين و{المقدسات}. فالتضليل بالمقدس كشفه الله بضربته، وجعله في “تضليل“. “إنّ للبيت ربّ يحميه”.
———-
“ترميهم بحجارة من سجيل”
سجيل: نار الله، ونار الأعالي. نار يقذفها الله من الأعالي (القمم)، حيث فوهات البراكين.
فهي مقذوفات نارية تسقط من الأعلى. ما بين سافل القرية (ما تحتها حيث مخازن النار والحمم) وبين عاليها (قمم جبالها) توجد قصبة/أنبوب تنقل ما في سافلها من نار وحمم، إلى عاليها، فجعل عاليها (ما في الاعلى) كما سافلها (ما في الاسفل) ليخرج على شكل (lava) أي مقذوفات بركانية، أمطروا بها ك {حجارة} من سجيل.
{أبابيل} ليست صفة ل {طيرا} بل هي (بدل تفصيل) فهو قد أرسل عليهم طيرا. ما هو هذا الطير؟ الجواب: أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل فالابابيل هي فوهات الجبال (أبوابها)، تخرج ما في (السجيل) أسفل الجبال، وترميهم بالحجارة البركانية (المتطايرة) من الأعلى. وهذا الاعراب لكلمة الابابيل شبيه بالأمثلة التالية في سورة الطلاق والفرقان.
ففي سورة الفرقان “وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ”، فهنا كلمة “العذاب” تفسّر كلمة “أثاماً”، كما تفسّر كلمة “حجارة” في سورة الفيل كلمة “طيرا”.
وفي سورة الطلاق: “فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ”، ف “الذكر” هو آيات الله التي يتلوها الرسول، كما أنّ “طيرا” هي الحجارة التي ترميها الأبابيل.
“فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ” ما معنى السماء في القرآن؟ وكيف يمكن أن تتعدد معاني كلمات مثل “السماء” أو “الطير” أو “الحوت” في كتاب الله تعالى، بناء على منهج جمعية التجديد.
هذه الألفاظ العربية (سماء/طير/حوت) لها “دلالة عامة” من حيث معناها، ومن حيث {المدى الدلالي} الذي تشتغل فيه بناء على {صوتها} ولكن هذه اللفظة ذات الدلالة العامة، تعطي معاني ومصاديق {كثيرة}، وكل هذه المعاني تشترك في تلك الدلالة العامة. بهذه الطريقة يكون إلى اللفظة العربية {مدى} تشتغل فيه، وليس فقط معنى {حقيقي} واحد. وقد بيّنا في حلقات يونس (ع) مثلا أنّ كلمة (حوت) تدل على حركة دائرية أو حركة ذهاب ومجيء. هذا من حيث الدلالة العامة، ولكن من حيث المصاديق والمعاني فهي تعني البحر الموّار المحيط، وهي تعني السمكة الموّارة، وهي تعني السفن الذاهبة الآئبة، وهي تعني دوامات البحر.
لاحظ أيضا لفظة “السماء” في القرآن. ففي القرآن دلالة “السماء” واحدة، ولكن مصاديقها وأعيانها كثيرة جدا. فما الذي يحدد أي معنى أو مصداق هو الأنسب لهذا المورد أو ذلك؟ الجواب: الذي يحدد هو السياق، بما يكتنفه من منطق ويفرضه من حكمة. لغويا، معنى السماء عام: فالسماء من كل شيء، أعلاه. ولكن المصاديق قد تتعدد، وتشمل كل من: سقف البيت، كلّ ما علاك، الجبل، السحاب، المطر، الغلاف الجوي، الكواكب
مثلا: ما هي السماء التي فتحت في قوله تعالى (وفُتحت السماء فكانت أبوابا)؟ إنها أعالي الجبال وقممها التي تنفتح بالحمم البركانية العنيفة بشكل مفاجئ وعنيف. وهذا شبيه لقوله تعالى: “فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان“، التي من تأويلاتها انشقاق قمم جبال البراكين وتفجرها باللّافا التي تشبه وردة حمراء دهنية تسيل، فهي وردة من حيث الشكل، ومن حيث اللون الأحمر المشرب بصفرة. فليس كل استعمال للفظة {سماء} يعطي نفس المعنى. وهكذا مع بقية الألفاظ.
ما معنى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}؟ أغلب التفاسير ظنّت أنّ هذا وصف للمجزرة التي حصلت لجيش إبرهة. وكأنما مشهدهم وهم مشوهين مقتولين كان كالعشب المأكول التي مرّت عليه الدواب (عصف مأكول). بينما الآية الاخيرة هذه هي في الحقيقة مفسّرة للآية الأولى. فالآية (فجعلهم كعصف مأكول) تفسّر (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، فهي تلخّص ما فعله بهم، لا أنها تحكي مشهد مصارعهم.
فما معنى (عصف)؟ لنلاحظ الآية “فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان”، وكذلك “وما تخرج من ثمرات من {أكمامها}” نستنتج أنّ الأكمام يخرج منها الثمر. فالنخل ذات الأكمام التي تخرج الثمر تُحاكي الحبَّ ذا العصف الذي يُخرج الثمر، فالعصف للحبّ يُقابل الأكمام للنخل.
يقول بعض أهل اللغة عن معنى العصف: الورق الذي ينفتح عن الثمر. فالعصف المأكول اذن هو ورق منضم، يوشك أن ينفتح عن ثمره وغايته، وقبل تحقق غايته بقليل، جاءته الدواب وأفسدته وقيل أيضا: عصف الزرع: (جزّه وقطعه قبل أن يُدرِك) فهذا ما حصل مع أصحاب الفيل، خرجوا بمكيدتهم وأرادوا السوء بالبيت الحرام، حتى إذا {أوشكوا} أن يحققوا (غايتهم) وأن يثمر (كيدهم)، في تلك اللحظة تماما أفسدت خطتهم وأفشلت، وتمّ دحرهم. فالآية ليست كما يقول التفسير أنها بمعنى (أهلكناهم وما أبقيناهم) بل بمعنى (أفشلنا غايتهم وكنّا بالمرصاد) مباشرةً قبل أن يحققوا غايتهم.