الذي حاج إبراهيم في ربّه.. بين متاهة {عقيدة الخوارق}، وحكمة السياق القرآني – الجزء الأول

مقال مستفاد من برنامج “للتي هي أقوم” لجمعية التجديد تقديم الأستاذ جلال القصّاب
من هو الذي حاج إبراهيم؟ وما هي قصة المحاجة؟ والمُلك؟ والإحياء والإماتة؟ وإتيان الشمس من المشرق؟
عرفنا من حلقات جمعية التجديد، أنّ الموت والحياة المعنويات عملة الوحي وعَمَل الأنبياء. وأنّ الأنبياء أرسلوا فقط لإحياء موتى الروح، لكون حياة وموت الروح هي المهمة. وأنّ الله تعالى لم يبعث ميّتا من قبره في الدنيا، ولم يفعل أيّ نبيّ ذلك أيضا، وهذا معنى الإماتة والإحياء في كل سورة البقرة.
وحين نأتي لآيتنا، فإنّ الذي جعلنا نخطأ المراد هي مجموعة أمور:
– لم نثبّت المحكمات
– لم نبحث عن الحكمة في القصة
– لم نقرأ الآية في سياقها
– لم نر الآية كجزء من نسيج سورة البقرة وهويتها
– لم نعرف الفئة المستهدفة من القصة
ولهذا كلّه، فسرّنا القصة منطلقين من عقيدة الخوارق، فأنتجنا تفسيراً بلا معنى ولا فائدة.
لقد جعلت بعض التفاسير: ألم تر = هل رأيت، والذي حاج إبراهيم = جادل إبراهيم في توحيد الله وربوبيته، وربي الذي يُحيي ويميت = يحيى الخلائق ويسلبها الحياة، وأحيي وأميت = أقتل من أردت وأستبقي من شئت، والذي كفر = كافر، وأصبحت الآية بلا معنى في الواقع الرسالي حين نزلت حيث طبيعة المواضيع مختلفة
في الواقع، فإنّ مفتاح فهم الآية هو في لفظ {المُلك} فسورة البقرة تحكي عن مواجهة يهود يثرب لمحمد (ص) في المُلك، أيّ في الشرعية الدينية وملك الله، كما قال عيسى يُنزع منهم ملكوت الله ويعطى لأمة أخرى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء…)
وقد بيّن هذا قبل 10 آيات فقط في سورة البقرة، إيتاء الله الملك من يشاء، واحتجاج الرجعية الدينية وفق موازينها التقليدية على هذا الاختيار في قصة طالوت (شاؤول) “وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكࣰاۚ قَالُوۤا۟ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَیۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ یُؤۡتَ سَعَةࣰ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَیۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةࣰ فِی ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ یُؤۡتِی مُلۡكَهُۥ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰ⁠سِعٌعَلِیمࣱ”البقرة 247
وإنّ سبب ذكر إبراهيم (ع) دون غيره هنا هو لأنّ اليهود وظّفوه كرأس سلالتهم وكمؤسس وعكّاز لوعدهم الأبدي بالملك الإلهي والشرعية الدينية التي لا تُنسخ ولا تتّسع لغيرهم وجعلوه “جوكر” حجتهم، قبال كل من يبعثه الله لهم، فعلوا ذلك مع عيسى (ع) والآن مع محمّد (ص).
فقَلَبَ الوحي الأمر، فجاء بإبراهيم يؤازر النبي (ص) ويفضحهم به، فهم يحتجّون بإبراهيم (ع) كممثلين شرعيين له، يجعلونه أباً خاصاً بهم وأنّهم أبناؤه المصطفون الورثة، هو العبري الأول (عبرام) لأرض الميعاد وصاحب العهد الإلهي لنسله (أيْ هم) بتمليك الأرض المقدّسة واحتكار النبوّات وتميّزهم على الأمم.
فردّ الوحي عليهم عبر ذكره إبراهيم (ع)، بأنهم يمثلون لا إبراهيم، بل الجهة التي حاجته ووقفت ضده، وأنّ النبي (ص) هو دعوة إبراهيم (ع) في الأميين وأنه هو وليس هم أولى الناس بإبراهيم، وهم السفهاء ممن يرغبون عن سنة إبراهيم، وما كان إبراهيم يهوديا ليلصقوه بهم، بل كان كحفيده محمد (ص) حنيفا مسلما، كما أكدت سورة البقرة في ثناياها. وأنّ الله لا يعطي الشرعية الظالمين ليمثلوه مهما لبسوا ألبسة الدين وحفظوا تراثه وقرأوا كتبه، فهم الظالمون للأمم الذين لا ينالهم عهد الله حين عهده لإبراهيم (لا ينال عهدي الظالمين)، فالله لا يمثله ودينه ظالم. هذه التفاصيل كلها سبقت آية الذي حاج إبراهيم في سورة البقرة، لتكون القصة تلخيصا لكل ما قبلها
1. وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ.. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
2. وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
3. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا.. قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ
4. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
5. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
6. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
7. إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
8. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
9. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ… لَا نُفَرِّقُ بين أحد منهم
10. أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا
11. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ
12. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
وعودا على الآية، فإنّ “ربي الذي يحيي ويميت”. لا يمكن أن يكون إحياء وموت الجسد للأسباب الذي ذُكرت أعلاه (إضافة لأسباب أخرى شُرحت في محلها). وأيضا:
أنّها ليست جوابا على “من ربّك”؟ لأنها ليست أول أمر تعرّف به الله (اسأل أي مؤمن يسأله ملحد: من ربّك؟ لقال أجوبة خير من هذا، مثلا: ربّي خالق كل شيء. ولكن لن يكون جوابه هذا. ويُحيي” لا يُوجد لها واقع في الدنيا على ظاهرها المادي في عالم البشر، و”يُميت” لا قيمة لها لأن الكل يمكنه فعلها حين يقتل شخصا، فهي تُحيل على أمر غائب أكان هو الموت المستقبلي ثم إحياء البعث الذي سيكون بعده بآلاف السنين (بشرط التقديم والتأخير بينهما)
إنّ عبارة الذي حاج إبراهيم كانت (أنا أحيى وأميت) ليست عبارة ملحد، وإلا لقال: (بل أنا أحيي وأميت)، وإنما هي رد على حصر إبراهيم ع للإحياء والإماتة بربّه (ربي الذي يحيى ويميت). فهو يرى نفسه المخوّل من الربّ، لا الشريك ولا البديل، بل الوكيل الحصري، الممثل الحصري للإحياء والإماتة، فلا تُسلب منه.
كمن يرى الآن أنّ كلام الله يفسره كلام الله نفسه فيقول له شخص: بل يفسّره المفسرون العظام فقط، فهذا أمر يقع، وحجة تستعمل في كل احتكار، ودائما تقع، أن يدّعي شخص كاذب وفاسد (في داخله) لكن منمق في الخارج، أنه هو ممثل الله الحصري. وأشباه (ربي الذي يُحيي ويُميت) قبال هذا أمثلتها كثير:
ربي هو مشرّع الدين، ربي هو المحاسب على الإيمان والكفر، ربي كلامه هو الحق، ربي من يحكم بمستحق الجنة والنار والمهتدي من الضال. ستجد آخرين يردون بالعكس، ومقتنعون بها لدرجة نحر الآخر أو إحراقه لو خالفهم (ليكون الدين كلّه لله).
فمعنى عبارة إبراهيم، بالنظر لمعنى الإحياء والإماتة المعنويين المطرد في سورة البقرة: أن الله هو الذي يهدي ويحكم بهداية، ويضل ويحكم بضلالة، لا غيره، لكن ممكن لكاهن أو فقيه أو شيخ أن ينفي هذا الحصر بالتفويض كما قالت اليهود، أن الله فوّضنا لنهدي ونحكم بهداية ونضلل من خالفنا
فالهدى لدينا ومن خالفنا خالف الله وضل، فهو احتكار الله وهداه، من يقولون عنه مبتدع وجب قتله واستحقاق النار فقد وجب (يميت)، ومن يقولون عنه موالي ومهتدي ومشفوع له ومغفور له وطيب الله ثراه ورضي الله عنه فقد وجب وهو من أهل الجنة،
أليس هذا ما يفعله أشباه المحاجّ لإبراهيم (أنا أحيي وأميت) بفتوى واحدة ممكن تفجير مسجد أو مأتم أو كنيسة أو سينما وممكن عدم فعل ذلك، بفتوى أو تبديع وتكفير وقتل طائفة كاملة أو تركها تعيش. كثيرون هم الذين يزعمون أنهم يُحيون ويميتون ويحتكرون الضلالة والهدى
ولا مرور لأعمال الناس إلا عبرهم وعبر إمضائهم. فالمحاجة هي تنازع على الشرعية الدينية، وعلى الاحياء والاماتة بهذا المعنى. من يملك الهدى؟ من يملك أن يفتي هذا ضال، وهذا مهتدي، وهذا كافر، وهذا مؤمن، هل الله هو الهادي والمضل، أم المتردّون بردائه؟ هل (الدين كله لله) أم هو لرجال الدين؟
إبراهيم عليه السلام قال (ربّي الذي يحتكر هذا)، وزعم الذي حاج (ونظرائه كهنة اليهود في المدينة) أنّهم هم الممثلون لله ولدينه وبيدهم مقاليد الهدى والضلال أي الإحياء والإماتة الروحية


Scroll to Top