ربما يكون من المتعذر أن يجري الانسان تقييما موضوعيا على ايجابيات/سلبيات برنامج مثل تويتر. وذلك لأنّ برامج التواصل الاجتماعي عموما تساهم في تضخيم “النقطة العمياء” ضمن حيز الإبصار لدى الانسان، ويمكن بسهولة إغفال النواقص والسلبيات.
ولكن مع ذلك، يمكن أحيانا الإشارة لبعض الاستفادات:
– من الصعب جدا أن يخفي الانسان تأثّره النفسي مما يحدث على تويتر لاسيما إن كان يمتلك حسابا فاعلا ونشطا، فكثير من الردود تستثير غرائزنا، وتحفزّنا للرد دائما بما نظنه سيشفي الغليل. كلنا نقع في مثل هذا فلا نقاوم إغراء الردّ، بل ربما ننساق للمشاحنات والردود والخصومات والانتقام للذات. وحتى إن لم نرد، ففي إعصار الفوضى هذا، يصعب على الانسان – الذي هو كتلة من الهشاشة والضعف – الحفاظ على قلبه صافيا من كل الملوثات النفسية.
– يمكن للاختلافات العقائدية أحيانا أن تفسد الودّ بين الاخوان، كما يمكن للتباين الحاد في الأفكار أن يقلب الصداقات الى خصومات. وهذا أمر مؤسف للغاية. ولكن الأمر المؤكد هو أنّ العقيدة التي تدفع بصاحبها إلى إفساد صداقاته وأخوته مع الاخرين، وتحويل الود إلى خصومة، هي قطعا عقيدة بحاجة إلى إعادة نظر ومراجعة وفق المعايير الأخلاقية والضمير الإنساني ومبادئ الدين الأساسية.
– قد نتسرّع فنصدر حكما على مغرّدٍ ما عند قراءة بعضاً من كتاباته، وربما سارعنا في تصنيفه ولصقه بأحد التيارات والتوجهات. والتصنيف عموما أريح للذهن. ولكن بمزيد من التأني، نكتشف أنّ ذلك المغرّد هو أكثر تعقيدا من تصنيفاتنا المتعجلة. فهو إنسان يحمل تركيبته الفريدة، وله تجاربه ورؤاه وآماله وآلامه وخبراته ونظرته للعالم. والتأنّي يعيننا على التفهّم أكثر، وعلى التواضع مع الاخرين أكثر، وعلى تلمّس الأرضية المشتركة التي يمكن أن تجمعنا معه، وبالتالي لتغيير حكمنا المستعجل عليه.
– إنّ تعرّضنا للضغط أو الهجوم على معتقداتنا وأفكارنا من قِبَل الاخرين، قد يجعلنا نتعصب لهذه المعتقدات والافكار بشكل يحجب عنا مساوئها وسلبياتها، لأنّها– بتعرضها للهجوم – تصبح جزء من “الأنا”، ودفاعنا عنها يصبح دفاعا عن “الأنا”. ومن الصعب على النفس التي تتقن في العادة تبرير “عصبية” صاحبها بمبررات مثل “الدفاع عن الحق” و”الغيرة على الدين” و”الثبات على المبدأ”، أن تكتشف الخيط الرفيع الذي يفصل بين الصنمية والتعصب من جهة، وبين اتّباع الدليل من جهة اخرى.
– التنمّر رذيلة قبيحة جدا، وهي تكشف عن خلل أخلاقي في صميم الانسان المُتنّمر. وقد أتاح لنا تويتر فعل ذلك بمختلف المستويات والاشكال. وكلنا قد نقع فيه أو في شيء منه، ربما من حيث لا نعلم. ولكن أقبح أنواع التنمر، هو الذي ينساق فيه المرء، لكي يثبت “ذاته” وتديّنه” و”ولائه لعقيدته” و”مبدأه”، لأنّ المبدأ الذي ينمو على هرس عظام الآخرين، وعلى خلق “ضحايا”، وعلى البحث دوما عن “جهة” تُفرَّغ فيها شحنات الغضب، هو مبدأ مشوّه مهما تزيّنت شعاراته. والخطورة الاخرى في التنمّر الذي نقوم به هو ذوبانه في حملات التنمر والغضب الجماعية، فهو يحتمي نوعا ما ويتذرع بذريعة قيام الآخرين به. فمن الصعب علينا مثلا – إذا سَبَقنا تسعة أشخاص في الهجوم على مغرّد ما (وربما كان بعضهم أسماء معروفة ومشهورة بالفضيلة والتدين والدفاع عن العقيدة) – أن نتأنّى ونساءل أنفسنا عن أخلاقية دخولنا في الحملة الهجومية هذه. فقد أعطينا أنفسنا “الشرعية”، وصبغنا فعلنا بالأخلاقية بشكل لاشعوري، حين أصبح تنمرنا جزءا من الحملة الجماعية تلك.
– يمكن أن تُنسج أكاذيب كبيرة في “تويتر” دون أن يكون هناك تمحيص لها من قبلنا. فقد يُرمى صالحين بقبائح التهم، وتُنسج حولهم قصص كبيرة، ثم تمرّ هذه الاكاذيب وتنال صدى ومقبولية وتصديق. ويمكن أن يكون تويتر مكانا سهلا لسوء الظنون ولسوء الفهم. والهيجان الجماعي إذا انطلقت شرارته في منصة مثل تويتر، فمن الصعب ضبطه، أو تمييز الصواب فيه من الخطأ. والانسان الحصيف والموضوعي، إذا وجد نفسه في وسط حملات جماعية تُكال فيها التهم والاساءات، ولم يكن له قدرة على الوقوف على الحيثيات والاستماع لكل الأطراف، فإنّه يستطيع على الأقل تحييد نفسه، وترك حسم بعض المسائل للزمن، مع السعي والحرص الشديدين على أن يبقي قلبه منزّها عن هذه الأخطاء، حتى حين.
– وسائل التواصل الاجتماعي بلا شكّ قد غيّرت من نظرتنا للعالم، ومن معتقداتنا، ومن إطارنا التوجيهي في الحياة. هذه أمور قد لا نقرّ بها، أو نظنّ أننا أعلى منها، وأنّ عقائدنا أكثر صلابة من أن تُمسّ من قبلها. ولكنّ أمثال هذه التغييرات ليست فورية ليلاحظها المرء بين ليلة وضحاها، وإنما هي تدريجية تحصل له على امتداد سنوات، ومرتبطة بما يدخل للمرء من رؤى وأفكار بشكل يومي من هذه المنصات، وما بناه وهدمه من علاقات إنسانية في هذه الشبكة الضخمة، وكذلك ما عاصرته هذه المنصة من أحداث سياسية ودينية واجتماعية مفصلية، وما آلت إليه هذه الأحداث. كلها أمور هزّتنا في الصميم، وغيّرت أحوالنا النفسية، ومعتقداتنا، وعلاقاتنا، وأعادت ترتيب أولوياتنا.
– يمنحنا علم النفس المعاصر فهما معمقا على سلوكنا في تويتر. فعلى ضوء مكتشفاته، صرنا نعرف أنّ كثير من الافكار التي نجادل من أجلها ترتكز على أحوالنا النفسية وعقلنا اللاواعي، وليس على الأفكار بشكل مستقل في حد ذاتها، لذلك فإنّ تعصبنا للفكر والعقيدة ليس بالضرورة ناشئ عن متانة الفكرة وقوة البراهين الدالة عليها، بقدر ارتكازه على حالنا النفسي ومخاوفنا وأولوياتنا المُضمرة وعلاقاتنا بالآخرين. لذلك فعندما نجد تعصبا شديدا لفكرة ما، ينبغي أن ينصب الجهد على فهم المحرّك النفسي لهذا التعصب، وليس فقط على اثبات محتواها للآخرين.
في النهاية، الادعاءات سهلة، والشعارات كبيرة؛ وكل ما يعمله الانسان بدافع الرغبة والخوف، لا يثمر.
السؤال الأهم بعد كل تجربة: ما هو موقعي اليوم “كانسان” مقارنة بالامس؟