تحيط بالمسيح عليه السلام ثلاث صور مختلفة من صور ظلمة النفس الإنسانية. وهذه الصور الثلاث، وإن تباينت في شكلها ودرجة عتمته، إلا أنها كلها تعبر عن “مأساة الانسان” المتكررة مع كل المصلحين عبر التاريخ.
الصورة الأولى هي صورة النفس التي تنغمس في لؤمها لدرجة الكفر باليد التي لطالما كانت ممدودة لخيرها وصلاحها. يهوذا الإسخريوطي، الحواري الذي باع ربّه بثلاثين قطعة من الفضة، هو نموذج لتلك النفس الجاحدة، اللئيمة، التي لا ترى إلا “الأنا”، والتي تنكص، وتسقط في وحل الذلة بعد الحياة في العزة.
لقد باع يهوذا “الانسان” وقبل ذلك، باع يهوذا نفسه، بثلاثين قطعة من الفضة، فدلّهم على البستان الذي يتواجد فيه المسيح. هو نفسه المكان الذي طالما قضى فيه لياليه بجواره. فما الذي حصل ليهوذا؟ لقد هشّمت الخيانة قلبه، فسقط الى الهاوية بشكل مدوّي! أخبره المسيح حين طبع يهوذا قبلته عليه ليدلّ الكهنة عليه: “يا يهوذا: أبقبلة تسلّم ابن الانسان؟” وقال عليه السلام من قبل: “الحق الحق أقول لكم: أنّ واحدا منكم سيسلمني” “ولكن ويلٌ لذلك الرجل الذي به يُسلّم ابن الانسان، وأنّه كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد”.
ولكنّ الخيانة من هذا المنظور ليست حادثا طارئا أو نزوة مفاجئة تحصل كحدث ختامي؛ بل هو تراكم للخبث في القلب عبر الزمن، ليتجلى في لحظة ختامية بشكل مأساوي وفاجع. إنّ مقدماته كانت موجودة، ولكنها خفية. المشهد ذاته مع السامري، فالسامري تهاوى عندما ذهب موسى عليه السلام لربّه، ولكن قلبه المُهمل كان مُهيأً لهذه الخيانة.
هذه هي الصورة الاولى التي أحاطت بالمسيح، وبكل الأنبياء. هي الخيانة، التي تأتي من الداخل ومن الأقرباء. هو الذئب الذي يستوطن قلوب بعض الاصحاب، ثم في لحظة ما، يفترس هذا الذئب غير المُروّض قلب صاحبه، فيلقي به الى الهاوية، ليذكره التاريخ لا كحواري، وإنما كذئب مسخته الخيانة! إذا كانت الصورة الأولى من صور ظلمة النفوس المحيطة بالمسيح عليه السلام هي صورة الخيانة الصريحة، بنموذجها الأبرز (يهوذا الأسخريوطي)؛ فما هي الصورة الثانية؟ الصورة الثانية هي صورة “الضعف والخذلان” في مواجهة التحديات وعند المفترقات. ونموذج هذه الصورة هو القديس بطرس.
سمعان (بطرس) كان الحواري الأول، والرفيق القديم، خاض مع المسيح أمواج الفتن، وعبر أكثرها عبورا آمنا، وبسلام. قال له المسيح يوما حين رأى وضوح معتقده: “طوبى لك، أنت هو الصخرة الاولى لكنيستي” فصار اسم سمعان، بطرس، أي الصخرة.
ولكن ما الذي حدث لبطرس؟ كيف تسلسل له الضعف؟ كيف اجتاح قلبه الوهن؟ هنا تجسدت مأساة الانسان مرة اخرى! وهي الصورة الثانية للظلمة التي احاطت بالمسيح. قال له المسيح في العشاء الاخير: “يا بطرس صليت لكيلا يفنى إيمانك”
أجاب بطرس “يا رب، سأمضي معك الى السجن، أو الموت” فقال له المسيح: “الحق يا بطرس، لا يصيح ديكُ الليلة حتّى تُنكرني ثلاث مرّات” وقد كان ذلك! فبعد أن أدان الكاهن “قيافا” المسيح عليه السلام في المحاكمة، وفي أجواء الرعب تلك والعذاب المرتقب، تسلل الخوف الى قلب بطرس، وأنكر سيده المسيح.
لقد أوشك بطرس أن يصل الى القمة؛ وحين شارف المسير على النهاية، أنكر المسيح. صار بطرس رهينة للخوف والضعف البشري. والخوف دائما هكذا، يأكل القلب حتى يهوي بصاحبه إلى مهاوي الخذلان، لذلك كان الخوف دائما ظلمة تحيط بالمصلحين.
أما الصورة الثالثة للظلمة، هو ذلك الانقلاب بعد الذي يحصل بعد رحيل المصلحين، وهي خيانة المأساوية لأنها تعمد على إنتاج نسخة مشوهة من تعاليمهم، عبر تحريف السيرة والمبادئ التي ساروا عليها. فهذا المسيح سار بين الناس ينثر نورا وسلاما، ليسير بعده شاؤول (بولس) يطفىء هذا النور، ويحرّف الكلم عن مواضعه، ومن بعد مواضعه. هي الصورة نفسها في كل دين، حيث يتحول دين الانسان إلى كهنوت، تهيّمن عليه مقولات عقائدية فاسدة، ورجال دين يصيرون هم الرعاة الرسميين لهذا الدين، ويتلاشى ضوء القيم، ونقاء العقائد البسيطة الفطرية.
لقد كان المسيح هو الانسان الثائر، ولكنّ بولس هو الكاهن الأول. كان المسيح الانسان الإنسان، وأبو المسيحية التي دعت الناس الى الله، وكان بولس هو أبو المسيحية التي دعت الناس الى المعبد. لقد واجه المسيح في حياته كهنوت اليهود؛ ولكن سرعان ما نشأ في داخل دعوته كهنوت جديد، عبر بولس. وذلك أشبه بعملية الوضع الذي تمّت في أحاديث الرسول (ص) والتي أخرجت لنا نسخة مشوّهة له (ص) ولدينه. فهذه هي الصور الثلاث للظلمة، متمثلة في يهوذا، بطرس، وبولس. تأملها، ثمّ تأمل سيرة الرسول (ص)، ستجدها هي هي. هي ذات الصور تتكرر بقوالب مختلفة وأشكال مختلفة، وهي قصص متكررة مع كل الأنبياء والمصلحين، فالتاريخ واحد، والانسان واحد لا يتغير.