الراحل نجيب محفوظ عبقريّ الرموز؛ يضع رسائله في قالب من الرموز الأدبية والصور الفنية فابن فطومة على وزن ابن بطوطة، يطوف بالديار والاوطان كلها. فمن جهة، تمثل كل واحدة من البلدان التي يطوف فيها حقبة من تاريخ تطور المجتمعات البشرية، ومن جهة أخرى تمثل جغرافيا لإحدى المجتمعات الإنسانية.
تبدأ مسيرة رحلة ابن فطومة حين قرر ترك دياره (ديار الإسلام)، ليعبر عبر الديار الست، محاولا بلوغ دار الجبل، أرض الكمال وبحسب تصنيف الراحل جورج طرابيشي في تحليله للرواية، فإنّ كل دار من الدور الستة، لها رمزية جغرافية، واخرى تاريخية، واخرى دينية، على النحو التالي:
دار المشرق جغرافياً هي القارة الافريقية، وتاريخيا تمثّل نظام المشاعية البدائية الامومية، ودينيا تمثل الوثنية والتأليه الطبيعي. فالناس فيها عراة، طقوسهم بدائية، وتغيب فيها المحرمات. القمر فيها هو الإله فهي وثنية لحد النخاع، والعمران البشري فيها معدوم، كما ان مفهوم الزواج فيها منتفيا.
ثم تأتي ثانيا دار الحيرة، فهي جغرافيا آسيا، والقوى الطبيعية تنتقل من القمرية المؤنثة الى التأليه البشري الابوّي للملوك. الملك فيها هو الإله، وهذه الدار “تتماهى في الهوية مع ملكها الإلهي”، والرقابة فيها شديدة، ورجل الدين فيها (الحكيم) هو مندوب بالوكالة لصالح الملك الإله.
ثم تأتي دار الحلبة، دار الحرية، أوروبا العلمانية، فهنا النهضة والخروج من ظلمات الكهانة، حيث التجارة رأسمالية، والسياسة ديمقراطية، والمبدأ الوحيد هو الحرية، وتسود البراغماتية قبال المثاليات القديمة. يواجه ابن فطومة في دار الحلبة “صدمة حضارية”. فهو يقف فيها حائرا، حيث يمثل الشرق المتأخر، أمام الغرب المتقدم.
ثم تأتي دار الأمان، وهي اوروبا الشرقية/والنظام الاشتراكي؛ وتمثل دينيا دار الإلحاد. أغلب سكانها من الطبقة العاملة، يكدحون طوال اليوم، لينالوا اجورهم. وتظهر في هذه الدار فكرة الشمولية، والمراقبة فيها مستمرة، ومبدأ “المساواة” يسود فيها دائما وابدا، حتى في هندسة البيوت والعمران. ثم دار الغروب، وهي دار التصوف، والعزوف، فهي لا تعدو أن تكون نقلة ومحطة عبور، فهي “دار الارتداد الى رحم الذات تهيؤا لتلك الولادة الثانية التي اسمها الموت”. ودار الغروب تصدم الانسان بسؤال الغيب، وتتعالى به فوق الايدولوجيات والنظم، فهي بلا مكان، ولكن زمانها هو الاخير قبل وثبة الموت.
وآخرها دار الجبل، خارج الزمان والمكان. ينهي ابن فطومة توثيقه أثناء طريقه لدار الجبل، أي قبل بلوغها، ويدفع بمذكراته لرئيس القافلة ليرجع بها؛ فلا ندري إن كان قد بلغها أم لم يبلغها، ولا يرجع هو ليخبرنا بما رأى، ويعبر عنها أنّها “صحراء قد ترامت بلا نهاية”. أليس الموت رحلة شخصية؟ فماذا بعده؟ تلك هي دار الجبل، وتلك نهاية الطريق!